استثمر في نفسك اليوم، واجعل التعلم عادة يومية. ابدأ الآن واجعل العلم رفيقك في رحلة النجاح. تابعنا على تيليجرام!

سلسلة هندسة الدعوة - 1 : من حماس النية إلى حكمة المنهج : "خير من حمر النعم": قراءة في فلسفة وصعوبة "هندسة الهداية"

مقدمة: ما قيمة أن يهتدي إنسان؟

قبل أن نخوض في تفاصيل المناهج الدعوية وتشخيص الحالات العملية، وقبل أن نتحدث عن الأخت "حليمة" وحماسها، يجب أن نتوقف عند سؤال جوهري يمثل نقطة الانطلاق والغاية النهائية لكل جهد دعوي: ما هي القيمة الحقيقية لأن تكون سببًا في هداية إنسان واحد؟ وماذا يكشف لنا حجم هذه القيمة عن طبيعة المهمة وصعوبتها؟
إن الإجابة تكمن في حديث نبوي شريف يمثل بوصلة لكل داعية ومربٍ. عندما وجّه النبي صلى الله عليه وسلم ابن عمه عليًا بن أبي طالب رضي الله عنه في مهمة دعوية يوم خيبر، ختم توجيهه بقوله: "...فَوَاللَّهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ." (متفق عليه). هذا الحديث ليس مجرد ترغيب في الأجر، بل هو بيان فلسفي ومنهجي عميق يكشف عن قيمة وصعوبة ما يمكن أن نسميه "هندسة الهداية".

القراءة الأولى: الترغيب والتحفيز وتحديد الأدوار

للوهلة الأولى، نفهم من الحديث مجموعة من المبادئ الإيمانية الأساسية التي تشكل وقود الداعية:
مصدرية الهداية ("يَهْدِيَ اللَّهُ"): أول وأهم مبدأ هو أن الهداية عطاء إلهي محض. هذا يغرس في الداعية التوكل والافتقار إلى الله.
السببية والأداة ("بِكَ"): دورك هو أن تكون "سببًا" وأداة يجري الله الخير على يديك. هذا يغرس التواضع المنهجي ويحمي من العُجْب.
قيمة الفرد ("رَجُلًا وَاحِدًا"): التركيز على "فرد واحد" يعلمنا القيمة العظيمة لكل إنسان، ويحفزنا على بذل الجهد حتى لو كان الأثر محدودًا في ظاهره.
القيمة الحقيقية ("خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ"): الحديث يقوم بعملية "إعادة بناء مفاهيمي" لمعيار النجاح والقيمة، فيستبدل المعيار المادي (أثمن أنواع الإبل) بالمعيار الإيماني العمراني (المساهمة في صلاح إنسان).
هذه القراءة تبعث في النفس الرغبة والشوق لهذا الفضل العظيم، وتشكل الدافع الروحي الأساسي للعمل الدعوي.

القراءة الثانية: عظم الأجر كتنبيه لعظم المهمة

لكن هناك زاوية نظر أخرى أعمق. ففي موازين العدل الإلهي، غالبًا ما يتناسب عظم الأجر مع عظم المشقة وأهمية العمل. من هنا، يمكننا أن نقرأ الحديث قراءة منهجية ثانية:
إن قيمة الأجر الخارقة للعادة هي تنبيه وإشارة إلى أن "هداية إنسان واحد" ليست بالأمر البسيط أو السهل على الإطلاق. لماذا؟ لأن الهداية ليست مجرد إعطاء معلومة ناقصة أو تصحيح سلوك خاطئ، بل هي كما يمكن تعريفها في سياقنا: عملية "إعادة هندسة" شاملة للشبكة المفاهيمية والقيمية والوجدانية للإنسان.
إنها تتطلب:
تفكيك مفاهيم راسخة قد تشكلت عبر سنين من التجارب والتربية.
ترميم مفاهيم مشوهة ارتبطت بمشاعر سلبية أو صدمات.
بناء مفاهيم سليمة وتأسيسها على قناعات عقلية وقلبية.
إعادة ترتيب هرمية القيم والأولويات.
ربط المنظومة الفكرية الجديدة بمنظومة سلوكية متوافقة معها.
هذه العملية الهندسية المعقدة، التي تشبه جراحة دقيقة في العقل والقلب، هي التي تستحق هذا الأجر الذي يفوق كل كنوز الأرض.

التكامل بين القراءتين: وقود التأهيل

القراءتان لا تتعارضان، بل تتكاملان بشكل حيوي لتشكيل شخصية الداعية المتوازن. فالداعية الحكيم ليس مجرد متحمس مندفع، وليس مجرد تقني بارد. إنه يجمع بين نقيضين:
"قوة الترغيب" (المستفادة من القراءة الأولى) تعطيه الدافع والشغف والرغبة التي تحركه.
"التنبيه لعظم المهمة" (المستفاد من القراءة الثانية) يدفعه دفعًا نحو التأهيل والتعلم المنهجي وامتلاك "حقيبة الأدوات" اللازمة لهذه الجراحة الدقيقة.
فكما "يتعطل المشرط في يد الطبيب حين تنعدم الرغبة"، فإن "الرغبة وحدها لا تغني عن حذاقة الطبيب وتأهيله". هذا الحديث الشريف يغذي الرغبة ويحث على التأهيل في آن واحد.

خاتمة: نحو دعوة تجمع بين الشغف والمنهج

إن الانطلاق في أي مشروع دعوي أو تربوي يجب أن يبدأ من هذا الفهم المزدوج. يجب أن يمتلئ قلبنا بالشوق العظيم لهذا الفضل، وأن تمتلئ عقولنا بالوعي العميق بحجم المهمة وصعوبتها.
هذا المقال الافتتاحي هو دعوة لننطلق في رحلتنا القادمة – رحلة الأخت حليمة مع جارتها – ونحن مسلحون بهذين الجناحين: شغف نابع من استشعار عظم الأجر، ومنهجية واعية نابعة من استشعار عظم المهمة. فبهما معًا، يمكن لـ "هندسة الدعوة" أن تؤتي أكلها بإذن الله.

كتب حسان الحميني،
والله الموفق.

Post a Comment

أووپس!!
يبدو أن هناك خطأ ما في اتصالك بالإنترنت. يرجى الاتصال بالإنترنت وبدء التصفح مرة أخرى.
الموافقة على ملفات تعريف الارتباط
نحن نقدم ملفات تعريف الارتباط على هذا الموقع لتحليل حركة المرور وتذكر تفضيلاتك وتحسين تجربتك.