تتردد على أسماعنا وقلوبنا كثيرًا في آيةٌ كريمةٌ تبعث على السكينة والطمأنينة: "لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا" (البقرة: 286). إنها وعدٌ إلهي بالرحمة والعدل. لكن، وبينما يستشعر المؤمن فيها لطف الله، يقع البعض في فخ تحويل هذا "الوسع" من مفهومٍ رحبٍ قابلٍ للتمدد، إلى مفهوم متكلس يعمل كسقفٍ جامدٍ يحدّ القدرات ويبرر القعود. فهل "الوسع" حقاً هو نهاية المطاف أم بداية الطريق؟ يهدف هذا المقال إلى إعادة "هندسة" هذا المفهوم المحوري في ضوء تكامل آيات القرآن الكريم مع فهمنا لطبيعة العقل البشري، لنحرر أنفسنا من قيود المفاهيم الخاطئة ونستعيد الثقة في الإمكانات الهائلة التي أودعها الله في الإنسان.
إشكالية السقف الوهمي: سجن "المفهوم الثابت"
إن اختزال "وسع" النفس في قدرٍ ثابت ومحدود مسبقًا هو مفهوم قاصر يحمل في طياته مخاطر جمة. فهو:
يُعطّل التوسع: يصبح مبررًا للتوقف عند أول عقبة، والاكتفاء بالقول "هذا وسعي". هذا المفهوم الجامد يغلق باب التعلم والنمو.
يُشجّع الركون إلى الضيق: يدفع الإنسان للبقاء أسير "منطقة الراحة"، خائفًا من استكشاف الطاقات الكامنة.
يتناقض مع روح الإسلام: ديننا الحنيف يحث على السعي والمجاهدة، وكلها مفاهيم تفترض وتتطلب قدرة الإنسان على النمو والتطور.
إن هذا الفهم الخاطئ ليس مجرد خطأ في التفسير، بل هو تجسيد لما يُعرف بـ "العقلية الثابتة"، وهو مفهوم متكلس بأن قدراتنا ثابتة، وهو ما يخالف الحقيقة البيولوجية لدماغنا المرن.
"الوسع": مفهوم ديناميكي مدعوم بالمرونة العصبية
الفهم الصحيح لآية "لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا" لا يتعارض أبداً مع النمو، بل يتكامل معه:
رحمة في أصل التكليف: الله تعالى برحمته وعلمه المحيط لا يطلب منك المستحيل بقدراتك المتاحة وقت التكليف.
الوسع قابل للنمو (الدليل الشرعي): قدرات الإنسان ليست جامدة. فما كان يبدو "فوق الوسع" بالأمس، قد يصبح في صميم "الوسع" اليوم بالتعلم والممارسة والإيمان والاستعانة بالله.
الوسع قابل للنمو (الدليل العلمي): لم تعد فكرة "نمو القدرات" مجرد أمل، بل أصبحت حقيقة علمية راسخة يؤكدها مفهوم "المرونة العصبية". لقد أثبت علم الأعصاب أن الدماغ بنية ديناميكية، قادرة على تغيير بنيتها وتوصيلاتها استجابةً للتجارب والتحديات. وبين هذه التوسعة في بنية الدماغ وتلك الزيادة في القدرات العملية، تكمن العملية الجوهرية التي هي محور مشروعنا: "توسيع المفاهيم وتجديدها". فالدماغ لا يتغير في فراغ، بل يتغير لأنه "يعتقل" معاني جديدة، ويبني مفاهيم أوسع، ويرمم خرائطه الذهنية عن الواقع وعن نفسه.
التكليف كحافز للتوسع: التكليف الشرعي هو "التمرين" المثالي الذي يحفز "المرونة العصبية". فالله، لعلمه بخلقه، يشرع لنا من التكاليف ما يعلم أنه سيساهم في توسيع شبكتنا المفاهيمية وتنمية عقولنا.
سياق الآية ودلالته: وليس من قبيل المصادفة أن تأتي هذه الآية العظيمة خاتمةً لسورة البقرة. فهذه السورة المدنية، التي أرست دعائم المجتمع المسلم، جاءت حافلةً بالتكاليف والتشريعات. فكان ختامها بهذه الآية بمثابة رسالة طمأنة جامعة، وتأكيداً على أن هذه التكاليف لم تُشرع إلا وهي في حدود القدرة البشرية التي تتسع وتنمو بالاستجابة لأمر الله.
الوسع والتكليف قرينان: هذا يؤكد الاقتران الوثيق في المنظور القرآني بين التكليف والوسع؛ فمفهوم "الوسع" غالباً ما يُذكر في سياق ما يُطلب من الإنسان فعله، مما يوحي بأن القدرة تُقاس وتُحدد وتتوسع في مواجهة المسؤولية. ومثالٌ آخرُ واضحٌ نجده في سورة الطلاق: "لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ... لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا". هذا التكرار للمبدأ يؤكد أن "الوسع" ليس مجرد حالة نظرية، بل هو قدرة عملية تُستدعى وتُختبر وتنمو عند مواجهة تكاليف الحياة.
شواهد قرآنية على التوسع اللامحدود (مدعومة بالفهم العصبي):
القرآن الكريم نفسه يقدم لنا الأدلة الدامغة على أن القدرة البشرية، حين تتصل بالله، تصبح قابلة لتوسع لا يمكن وضع سقف له:
زيادة الهدى للمهتدين: يقول تعالى: "وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى". من منظور علم الأعصاب، يمكن فهم هذه "الزيادة في الهدى" على أنها تقوية للمسارات العصبية المرتبطة بالبصيرة والمفاهيم الإيمانية. فكل فعل اهتداء هو "تمرين" يقوي هذه الدوائر المفاهيمية.
تعدد السبل للمجاهدين: ويقول عز وجل: "وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا". هذه "السبل" المتعددة يمكن فهمها على أنها خلق وتفعيل لشبكات عصبية ومفاهيمية جديدة ومبتكرة. فالمجاهدة تحفز الدماغ على الخروج من "أخاديده" المعتادة وحفر مسارات مفاهيمية جديدة.
خاتمة: نحو تحرير الإنسان الائتماني
إن الفهم الجامد لمفهوم "الوسع" هو قيدٌ وهميٌ يسهم في الانتقاص من صورة الإنسان المكرم. إنه يتعارض مع حقيقة الإنسان ككائن "ائتماني" كلفه الله بأمانة العمران، ويتناقض مع طبيعة "ذاته" التي هي "عملية" مستمرة من النمو والتطور لا "شيء" ثابت وجامد.
"لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا" هي رسالة رحمة، وفي نفس الوقت هي شهادة ضمنية بأن "وسعنا" نفسه، أي بنيتنا العصبية، هي بنية "لدنة" وقابلة للتوسع استجابة للتكليف. وعندما نسعى ونجاهد، يأتي وعد الله الصادق بزيادة الهدى وفتح السبل.
فلننطلق بثقة في الله، وبثقة في الإمكانات الهائلة التي أودعها فينا. لنجعل من "الوسع" مفهومًا ديناميكيًا وأفقًا يتسع، لا سقفًا يحبس طموحاتنا. إن رحلة اكتشاف الذات وتنميتها في سبيل الله هي أعظم رحلة، وهي عملية "هندسة مفاهيم" مستمرة لا تعرف النهاية إلا بلقاء الله.
كتب حسان الحميني،
والله الموفق.
