استثمر في نفسك اليوم، واجعل التعلم عادة يومية. ابدأ الآن واجعل العلم رفيقك في رحلة النجاح. تابعنا على تيليجرام!

المقال 27: هو من عند أنفسكم: كيف تؤسس "هزيمة أُحد" لمفهوم "حراسة ثغر النفس"؟


في أعقاب "جرح أُحد" المؤلم، لا يقدم القرآن مجرد مواساة أو سرداً تاريخياً، بل يقوم بعملية جراحية دقيقة في وعي الأمة، ليكشف عن السنن الحاكمة للنصر والهزيمة. هذا المقطع ليس توبيخًا للجرحى، بل هو تشخيص حاسم للمرض، ووصفة علاج متكاملة. والمغزل الذي تدور حوله كل هذه الدروس هو أن الهزيمة العسكرية لم تكن إلا تجليًا لهزيمة أعمق في "معركة المفاهيم" التي مسرحها "النفس البشرية". هذا المقال هو محاولة لاستكشاف كيف أن آية ﴿قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ﴾ هي "الآية العمود" التي تحول مسرح المعركة من "الخارج" إلى "الداخل"، وتؤسس لمنهج "حراسة ثغر النفس" الذي هو أساس كل نصر.

 الآية العمود: "نقل المعركة" من "الأرض" إلى "النفس"

إن "الآية العمود" في هذا المقطع هي ﴿اَوَلَمَّآ أَصَٰبَتْكُم مُّصِيبَةٞ قَدَ اَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمُۥٓ أَنّ۪يٰ هَٰذَاۖ قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمُۥٓۖ إِنَّ اَ۬للَّهَ عَلَيٰ كُلِّ شَےْءٖ قَدِيرٞۖ﴾ ( 165)
 فهي الانقلاب المعرفي الذي يرد على التساؤل الحائر أَنَّىٰ هَٰذَا، وينقل سبب الهزيمة من الخارج إلى الداخل. وهذه الآية هي علاج مباشر لما وصفه القشيري رحمه الله بأنه "عادة الخلق نسيان ما منهم من الخطأ والعصيان، والرجوع إلى الله بالتهمة...". إنها تكسر آلية التنصل وتؤسس للمسؤولية الذاتية، لتعلن أن المعركة الحقيقية هي "معركة المفاهيم" في "ثغر النفس".

"ثغر النفس": تشخيص "الأمراض المفاهيمية"

إن الدين، في رؤية الفيلسوف طه عبد الرحمن، ليس مساحة آمنة، بل هو حصن له "ثغور" يجب "المثاغرة" أي المرابطة عندها. والهزيمة تحدث حين يُترك ثغر من الثغور. وفي أُحد، لم يكن ترك "جبل الرماة" (الثغر المادي) إلا نتيجة لاختراق "الثغر الداخلي" الأخطر، وهو "ثغر النفس". لقد تسلل العدو الحقيقي (الشيطان وحب الدنيا) إلى هذا الثغر، فانتصر "مفهوم الغنيمة" على "مفهوم الطاعة"، وانتصر "وهم الحيازة" على "مفهوم التوكل". وهذا يعلمنا أن كل هزيمة خارجية، أصلها اختراق داخلي. فالانهيار المفاهيمي هو نتيجة "الغفلة عن واجب المثاغرة" على ثغر النفس.

"التمحيص" و"الفرز" كغاية تربوية للهزيمة

إن الهزيمة، في الميزان الإلهي، لم تكن نهاية، بل كانت وسيلة لغاية تربوية أسمى. وكما يقول أبو زهرة رحمه الله، فإن الله "أراد لكم تلك النتيجة" لتحقيق هذه الغاية. وهذه الغاية هي ما كشفت عنه الآيات: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا...﴾. فالهزيمة كانت كاشفًا ضرورياً لفرز الصفوف، وكشف مرض النفاق المتمثل في الانفصام بين القول والقلب: ﴿يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ﴾.

"إعادة تعريف الموت": العلاج الجذري لـ"حب الدنيا"

بما أن "حب الحياة" الدنيوية هو أصل المرض الذي أدى لانهيار "ثغر النفس"، فإن القرآن يقدم العلاج الجذري بإعادة تعريف "الحياة" و"الموت". فآية ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ تهدم المفهوم المادي للموت، وتقدم "الحياة عند الرب" كبديل أسمى. وجزاء من ينجح في هذا الاختبار، ويبيع نفسه لله، هو "الأمن النفسي" الكامل في الدنيا والآخرة: ﴿أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾.

الخاتمة: من "تشخيص الذات" إلى "بناء العمران"

إن منهج قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ ليس دعوة لجلد الذات، بل هو منهج للنهوض. فالأمة التي تمتلك شجاعة تشخيص أمراضها الداخلية، و"التفاكر" في إصلاح شبكة مفاهيمها، هي وحدها القادرة على تحويل هزائمها إلى دروس، والانطلاق من جديد لبناء عمران قائم على نفوس ممحصة وقلوب ثابتة.

كتب حسان الحميني،
والله الموفق.

Post a Comment

أووپس!!
يبدو أن هناك خطأ ما في اتصالك بالإنترنت. يرجى الاتصال بالإنترنت وبدء التصفح مرة أخرى.
الموافقة على ملفات تعريف الارتباط
نحن نقدم ملفات تعريف الارتباط على هذا الموقع لتحليل حركة المرور وتذكر تفضيلاتك وتحسين تجربتك.