استثمر في نفسك اليوم، واجعل التعلم عادة يومية. ابدأ الآن واجعل العلم رفيقك في رحلة النجاح. تابعنا على تيليجرام!

منهج الراسخين: كيف تحصننا أم الكتاب من زيغ الفتن والشهوات؟ (تدبر في الثمن 8 من الحزب 5 بسورة آل عمران)


تفتتح سورة آل عمران، سورة الثبات، ببيان منهجي هو بمثابة التحصين الفكري والروحي للأمة. فهذا المقطع لا يقدم أحكامًا تفصيلية، بل يؤسس للمرجعية العليا ومنهج التعامل معها. إن آية المحكم والمتشابه ليست مجرد قاعدة أصولية، بل هي الآية العمود التي تكشف عن سر الثبات في مواجهة نوعين من التحديات: متشابهات النصوص التي تثير الشبهات، ومتشابهات الحياة المتمثلة في الشهوات. هذا المقال هو محاولة لاستكشاف كيف أن هذا المنهج هو التأسيس الإلهي الذي كان يعد الأمة لمواجهة ملابسات غزوة أحد وما بعدها.
الآية العمود: أم الكتاب كمرساة في بحر المتشابهات
إن الآية العمود في هذا المقطع هي قوله تعالى: ﴿﴿هُوَ اَ۬لذِےٓ أَنزَلَ عَلَيْكَ اَ۬لْكِتَٰبَ مِنْهُ ءَايَٰتٞ مُّحْكَمَٰتٌ هُنَّ أُمُّ اُ۬لْكِتَٰبِ وَأُخَرُ مُتَشَٰبِهَٰتٞۖ فَأَمَّا اَ۬لذِينَ فِے قُلُوبِهِمْ زَيْغٞ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَٰبَهَ مِنْهُ اُ۪بْتِغَآءَ اَ۬لْفِتْنَةِ وَابْتِغَآءَ تَاوِيلِهِۦۖ...﴾ (آل عمران: 7)
 فهي دستور المنهجية المعرفية الذي يضع الميزان للتعامل مع النص والحياة. والمحكمات، كما يعرفها الإمام الطبري، "هي اللواتي قد أحكمن بالبيان والتفصيل... هنّ أصل الكتاب الذي فيه عماد الدين والفرائض والحدود". ويمكن فهم هذه العلاقة بتشبيه بديع للدكتور محمد عياش الكبيسي، حيث المحكمات هي جذوع الأشجار الواضحة والراسخة، والمتشابهات هي فروعها وأغصانها المتشابكة التي هي مظنة الزلل. ومنهج الراسخين في العلم هو التمسك بالجذوع (المحكمات) ورد الفروع (المتشابهات) إليها.
 الزيغ كمرض قلبي: العلاقة بين الشبهات والشهوات
يشخص القرآن أن المشكلة ليست في النص المتشابه، بل في القلب الزائغ: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ...﴾. وهذا الزيغ، كما يوضح ابن عطية، "يعم كل طائفة من كافر وزنديق وجاهل صاحب بدعة. والدافع لهذا الاتباع ليس طلب الحق، بل هو ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ"، أي إرادة الشبهات واللبس كما يقول الطبري. فالمتشابهات ليست رديفة للشهوات، بل هي ميدان الاختبار المعرفي. أما الشهوات التي زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّهَا، فهي الريح العاتية التي تدفع صاحب القلب الزائغ ليتأول المتشابه خطأ ليبرر شهوته.
 التأسيس لمعركة أُحد: قراءة استشرافية للسياق
إن هذا المقطع هو معسكر إعداد نفسي ومنهجي للأمة قبل مواجهة أزمة أُحد التي هي قلب السورة. فزيغ الرماة كان تطبيقًا عمليًا لمنهج اتباع المتشابه (بوادر النصر وجمع الغنائم) وترك الأمر المحكم الصريح من النبي صلى الله عليه وسلم. كما أن فتنة المنافقين بانسحاب عبد الله بن أبي كانت ترجمة سياسية لمنهج الزيغ، حيث تمسك بشبهة في الواقع "تبع الولدان" لضرب الأمر المحكم (قرار القيادة). إن الإيمان بأن المنزل للكتاب هو الْحَيُّ الْقَيُّومُ الذي لَا يَخْفَىٰ عَلَيْهِ شَيْءٌ، هو الأساس العقدي الذي يمنح الراسخين الثقة للتمسك بالمحكمات في وجه كل هذه الفتن.
الخاتمة: من رسوخ العلم إلى ثبات الأمة
إن الثبات في الميدان هو ثمرة الرسوخ في المنهج. ولكن هذا الرسوخ المعرفي لا يورث غرورًا، بل يورث افتقارًا إلى الله، ويتجلى في دعاء الراسخين: ﴿رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا...﴾. هذا الدعاء هو الاعتصام بالله الذي يجمع بين الأخذ بالأسباب المنهجية والافتقار إلى توفيق الله. فالعقل الذي يريده القرآن ليس عقلاً مقلدًا، بل هو كما يعرفه الإمام الغزالي: "المكشوف المعنى الذي لا يتطرق إليه إشكال واحتمال"، حين يتعامل مع المحكم، والمتأني الحذر حين يتعامل مع المتشابه. وهذا هو الميزان القسط الذي يبني الأمة الراسخة.

كتب حسان الحميني،
والله الموفق.

إرسال تعليق

أووپس!!
يبدو أن هناك خطأ ما في اتصالك بالإنترنت. يرجى الاتصال بالإنترنت وبدء التصفح مرة أخرى.
الموافقة على ملفات تعريف الارتباط
نحن نقدم ملفات تعريف الارتباط على هذا الموقع لتحليل حركة المرور وتذكر تفضيلاتك وتحسين تجربتك.