استثمر في نفسك اليوم، واجعل التعلم عادة يومية. ابدأ الآن واجعل العلم رفيقك في رحلة النجاح. تابعنا على تيليجرام!

سلاح الحكمة : كيف يحررنا القرآن من عبودية "البخل" و"الاستهلاك"؟


في قلب آيات الإنفاق، يغوص بنا القرآن إلى "المعركة النفسية" التي تحدد جودة عطائنا بل وحقيقة حريتنا. إنها معركة بين "وعد شيطاني" مزدوج يدفعنا إما إلى "البخل" خوفًا من الفقر، أو إلى "الفحشاء" المتمثلة في الإسراف وثقافة الاستهلاك، وبين "وعد رحماني" بالمغفرة والفضل. ويكشف القرآن أن السلاح الحاسم في هذه المعركة ليس الشجاعة أو القوة المادية، بل هو "الحكمة" التي هي هبة إلهية وخير كثير. هذا المقال هو محاولة لاستكشاف كيف أن آية "الحكمة" هي "الآية العمود" في هذا المقطع، التي تقدم "منهجًا تحريريًا" متكاملاً، يحرر الإنسان من عبودية المادة ويؤسس لثقافة إنفاق راشدة.

 الآية العمود : "الحكمة" كبوصلة للإنفاق الراشد

إن "الآية العمود" في هذا المقطع (الحزب 5، الثمن 4) هي ﴿يُوتِے اِ۬لْحِكْمَةَ مَنْ يَّشَآءُۖ وَمَنْ يُّوتَ اَ۬لْحِكْمَةَ فَقَدُ ا۟وتِيَ خَيْراٗ كَثِيراٗۖ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّآ أُوْلُواْ اُ۬لَالْبَٰبِۖ﴾. فهي تأتي كـ"حل استراتيجي" للمعركة النفسية التي وصفتها الآية التي قبلها (اِ۬لشَّيْطَٰنُ يَعِدُكُمُ اُ۬لْفَقْرَ وَيَامُرُكُم بِالْفَحْشَآءِۖ وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةٗ مِّنْهُ وَفَضْلاٗۖ وَاللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٞۖ) فالحكمة هي "النور" الذي يكشف زيف وعد الشيطان القائم على "الهوى والشهوة"، وصدق وعد الرحمن القائم على "مقتضى العقل والحكمة"، كما يوضح البقاعي رحمه الله. 
إنها حالة من "شهود الحق" كما يصفها  القشيري رحمه الله، تجعل المؤمن يرى وعد الله رأي العين، في مقابل "شهود الغير" الذي يغرق القلب في مخاوف الدنيا ووساوس الشيطان.

المعركة المزدوجة : مقاومة "البخل" و"الفحشاء"

إن "وعد الشيطان" له وجهان، وكلاهما يمثل انحرافًا عن الوسطية. الوجه الأول هو البخل (يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ)، وهو الذي يدفع الإنسان لـ يَتَيمَّمَ الْخَبِيثَ، فيبخل بأفضل ما لديه. والوجه الثاني هو الإسراف (يَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ). و"الاستهلاكية البغيضة" هي "فحشاء مالية" بامتياز، لأنها إنفاق قائم على "الشهوة" و"التباهي" لا على "الحاجة" و"المنفعة". و"الحكيم" هو الذي يدرك أن كلا الطريقين هما "خطوات للشيطان"، فيسلك الطريق الوسط: "الإنفاق من الطيبات".

 "التطابق" كتجلٍ عملي للحكمة المناهضة للاستهلاكية

إن الحكمة التي يهبها الله ليست حالة ذهنية مجردة، بل هي منهج عملي يتجلى في تحقيق "التطابق" التام بين ثلاث دوائر أساسية في حياة الإنسان: "القول" وما يحمله من نية وقيم، و"الفعل" وما يمثله من سلوك ظاهر، و"مناط الفعل" وهو الأثر الحقيقي الذي يتركه في الواقع. ومن خلال هذا الميزان، تتكشف لنا حقيقة "الاستهلاكية البغيضة" باعتبارها حالة "انفصام" حاد. فالمستهلك يعيش في شقاق بين ما يرجوه وما يفعله وما يجنيه. "قوله" الظاهري أو الباطني هو البحث عن السعادة والقبول الاجتماعي، لكن "فعله" هو شراء قهري تمليه الشهوة والتقليد الأعمى للإعلانات. أما "مناط الفعل" وأثره الحقيقي، فهو عكس ما كان يرجو تمامًا: ديون متراكمة، وفراغ روحي، وعبودية للمظاهر، بدلاً من السعادة المنشودة. وفي المقابل، يأتي "الإنفاق الحكيم" كتطبيق عملي للتطابق الكامل. فـ "قول" المؤمن ونيته هي ابتغاء وجه الله وشكر نعمته. وهذا القول الصادق يتطابق مع "فعله"، فيكون إنفاقًا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ، موجهًا نحو الأولويات الحقيقية لا الكماليات الزائفة. وبالتالي، يأتي "مناط الفعل" وأثره متناغمًا مع القول والفعل: سد لحاجة حقيقية، وبناء لكرامة إنسان، وتحقيق للبركة والسكينة في النفس. فالحكمة إذن هي البصيرة التي تمكننا من ردم هذه الهوة، وتوحيد دوائر حياتنا، ليكون إنفاقنا تعبيرًا صادقًا عن قيمنا، لا استجابة عمياء لشهواتنا.

 من "الحكمة" إلى "الخير الكثير" و"التذكر"

إن من أوتي الحكمة فقد أوتي "الخير الكثير"، لأنها تمنحه "البصيرة النافذة" التي، كما يعرفها ابن عاشور رحمه الله، تمكنه من "معرفة حقائق الأشياء على ما هي عليه... ولا يغلط في العلل والأسباب". وهذا الخير يجعله من "أولي الألباب" القادرين على التذكر، كما تختم الآية: ﴿وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾. فـ"الحكمة" هي "النور" الذي يهبه الله، و"التذكر" هو "الاستجابة" التي يقوم بها "صاحب العقل الصافي من الهوى" لهذا النور، فيتذكر غايته الحقيقية ولا يغرق في بحر الاستهلاك.

الخاتمة: الإنفاق كفعل تحرري

إن "الإنفاق" في الإسلام ليس مجرد "عاطفة" أو "بخل"، بل هو "قرار حكيم" وفعل تحرري. إنه يحررنا من "عبودية الخوف من الفقر" التي تؤدي إلى البخل، ويحررنا من "عبودية الشهوة والتقليد" التي تؤدي إلى الاستهلاك الفاحش. والناهض الذي يريد بناء عمران راشد، لا بد له أولاً أن يتحرر هو ومجتمعه من هاتين العبوديتين بسلاح الحكمة.

كتب حسان الحميني،
والله الموفق.

Post a Comment

أووپس!!
يبدو أن هناك خطأ ما في اتصالك بالإنترنت. يرجى الاتصال بالإنترنت وبدء التصفح مرة أخرى.
الموافقة على ملفات تعريف الارتباط
نحن نقدم ملفات تعريف الارتباط على هذا الموقع لتحليل حركة المرور وتذكر تفضيلاتك وتحسين تجربتك.