في خضم المواجهة مع أهل الاستكبار المادي، الذين قالوا ﴿إِنَّ اللَّهَ فَقَيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ﴾، يقدم القرآن "العلاج الجذري" و"الحقيقة المطلقة" التي تنسف كل أوهام الغرور من أساسها. هذا المقطع ليس مجرد وعظ بالموت، بل هو "ورشة عمل" لإعادة هندسة "مفهوم الحياة والفوز". هذا المقال هو محاولة لاستكشاف كيف أن آية ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ...﴾ هي "الآية العمود" التي تمثل "الميزان القسط"، وكيف أنها تحرر الإنسان من "وهم الحيازة" القاتل، وتضعه على طريق "الفوز" الحقيقي القائم على "حقيقة الأمانة".
الآية العمود: "حتمية الموت" كهادم لأوهام الدنيا
إن "الآية العمود" في هذا المقطع هي ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۖ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ۗ وَمَا الْحَيَوٰةُ الدُّنْيَآ إِلَّا مَتَٰعُ ٱلْغُرُورِ﴾. فهي الحقيقة الكونية التي تهدم كل الادعاءات البشرية القائمة على الغرور المادي. وكما يوضح ابن عاشور رحمه الله، فإنها تأتي "جامع للغرضين": فهي "تسلية للمؤمنين" على مصابهم، و"تفنيد لمزاعم المنافقين" الذين يظنون أن القعود ينجي من الموت. وإن تعبير فَقَدْ فَازَ يحمل في طياته صورة من عبر "مفازة" وعرة وخرج منها بسلام، فالفوز الحقيقي ليس "تحصيل" المتاع، بل "النجاة" من فتنة هذا المتاع.
"متاع الغرور": التشخيص الدقيق لطبيعة الدنيا
القرآن لا يذم "الدنيا" بإطلاق، بل يذم "الغرور" بها. وحقيقة "متاع الغرور"، كما يشرحها الماتريدي رحمه الله، هي أن "يتراءى الشيء في ظاهره حسنا مموها... فإذا نظر في باطنها وجدها قاتلة مهلكة". فالدنيا في ذاتها محايدة، ولكن "الرؤية" هي التي تحدد قيمتها. فهي عند الكافرين "لعب ولهو"، وعند المؤمنين "حكمة" ومزرعة للآخرة.
"حقيقة الأمانة" في مقابل "وهم الحيازة"
إن "الوعي بالموت" هو الذي ينقل الإنسان من "وهم الحيازة" إلى "حقيقة الأمانة". فوهم الحيازة هو الذي يولد "الغرور" (نَحْنُ أَغْنِيَاءُ) و"الجرأة" على الله وخلقه (وَقَتْلَهُمُ الْأَنبِيَاءَ). أما "حقيقة الأمانة" فتجعل الإنسان يتعامل مع الدنيا كـ "مستخلف"، فيستخدم متاعها بحكمة، ويتزود منها لآخرته، مدركًا أنه سيسلم هذه الأمانة لصاحبها عند "ذوق الموت".
"ميزان القيمة": التوقيت لا الكمية
إن هذا المقطع، بربطه بالتوبة والفداء، يؤسس لـ "قانون القيمة" في ميزان الله. فالله يقبل "التوبة والإصلاح" (عمل بسيط) "في وقتها" (الدنيا)، ولكنه يرفض مِّلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا "بعد فوات وقتها" (عند الموت على الكفر). إن "عامل الوقت" هو المتغير الحاسم، فقيمة الفعل ليست بحجمه المادي، بل بتوقيته الصحيح. وهذا هو الاعتبار الأكبر الذي يجب أن نتعلمه من حتمية الموت.
الخاتمة: الفوز الحقيقي
إن هذا المقطع هو دعوة لـ "تصحيح البوصلة". إن "الناهض" الذي يستوعب هذه الحقائق، يتحرر من "الغرور القاتل" ومن "سباق حيازة المتاع" فيتحرر من سطوة عالم الأشياء، لا سيطرة عليه ولكن تسخيرا له للعمران. وهو يضع نصب عينيه "الفوز" الحقيقي الذي عرفته الآية: فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ. وهذا "الوعي" هو الذي يمنحه "الصبر" و"الثبات" في مواجهة كل أذى وابتلاء.
كتب حسان الحميني،
والله الموفق.
