تُعَدّ النية في التصور الإسلاميّ من أعجب أسرار العبوديّة، إذ بها يتحوّل العمل الجزئيّ إلى عطاءٍ كونيّ، ويصير الفعل المحدود سببًا للأجر اللامحدود. وقد أشار النبيّ ﷺ إلى هذا المعنى بقوله: «إنما الأعمال بالنيّات، وإنما لكل امرئٍ ما نوى»، فكانت النيّة بمثابة الروح التي تُحيي الجسد، والجوهر الذي يُقيم الوزن لكلّ حركةٍ وسكونٍ في حياة الإنسان.
من هذا الباب، تتجلّى فكرةٌ عميقةٌ نقلها العارف بالله الشيخ ذو الفقار أحمد النقشبندي المجددي، وهي ما اصطلح عليه بعض مريديه بـ "السلسلة الذهبيّة"، أي: أن ينوي المؤمن عند كلّ عملٍ صالحٍ أن يُهدي ثوابه لجميع المسلمين من عهد آدم عليه السلام إلى آخر الزمان.
ليست هذه الفكرة مجرّد توسّعٍ في الإحسان، بل هي بناءٌ روحيّ على قاعدة قرآنيّة راسخة:
﴿إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا﴾ [الكهف: 30].
فالإحسان في الإسلام لا يُقاس بكمّ العمل فقط، بل باتّساع دائرته، وبعمق مقصده، وبصفاء نية صاحبه. فإذا وسّع العبد نيّته ليجعلها شاملةً لجميع المؤمنين، فقد دخل في أفقٍ جديدٍ من العطاء الإلهيّ، لا تحدّه الموازين الأرضيّة.
أولاً: في معنى السلسلة الذهبيّة
السلسلة الذهبيّة ليست مفهومًا مادّيًّا يُقاس بالزمان أو المكان، بل هي شبكةٌ نوريّة تربط أرواح المؤمنين بعضهم ببعض، فيستفيد بعضهم من دعاء بعضٍ، وينتفع بعضهم من نية بعضٍ. وهي في حقيقتها صورةٌ من صور "التكافل الروحيّ" الذي يقرّره الدين في قوله تعالى:
﴿وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ﴾ [الحشر: 10].
فالعبد حين يهدي عمله للأمة، لا يخرج عن مبدأ الدعاء والاستغفار المتبادل، بل يترجمه إلى سلوكٍ دائمٍ ونيةٍ مستمرةٍ.
ثانيًا: في البعد الروحيّ للفكرة
حين يقول المؤمن "سبحان الله"، يُكتب له أجرٌ واحد، ثم يُضاعف بعشرٍ، كما ورد في الخبر الصحيح. فإذا نوى أن يُهدي هذا الأجر لجميع المسلمين، فقد جمع بين ذكر الله والإحسان إلى خلق الله، فيرتقي عمله من عبادةٍ فرديّةٍ إلى عبادةٍ جماعيّةٍ، ومن تسبيحٍ محدودٍ إلى إشعاعٍ ممتدٍّ في الأفق الإنسانيّ كلّه.
إنّ هذا الفهم لا يقوم على حساب الأعداد، بل على عمق النية، لأنّ الله تعالى كريمٌ لا تنقص خزائنه بالعطاء، كما قال في الحديث القدسيّ:
يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني، فأعطيتُ كلَّ واحدٍ مسألته، ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أُدخل البحر.
فمن جاد على الخلق بالنية، جاد الله عليه بالثواب بلا حدود.
ثالثًا: السلسلة الذهبيّة كفلسفةٍ للأجر المتجدد۔
هذه السلسلة تعبّر عن استمرارية الثواب بعد الموت، لأنّ كلّ من عمل بنصيحة صاحبها أو اقتدى بنيّته، صار له مثل أجره، كما قال ﷺ: من سنّ في الإسلام سنةً حسنةً فله أجرها وأجر من عمل بها،۔۔۔۔ لا ينقص من أجورهم شيء.
فالسلسلة الذهبيّة کما انھا توارث للأعمال، کذالک هي امتدادٌ للنوايا، إذ تبقى النية فاعلةً حتى بعد رحيل صاحبها، تُنتج الثواب في قبره كما تُنتج البذرة في الأرض بعد موت صاحبها.
رابعًا: الأثر التربويّ للفكرة
إنّ من يتربّى على هذا المعنى يخرج من دائرة "الأنانية الروحية" إلى دائرة "الرحمة الشاملة".
فلا يرى نفسه وحده في طريق النجاة، بل يرى نفسه جزءًا من أمةٍ، ويعمل لنفعها، ويفكّر بثوابٍ يتجاوز ذاته.
وهذا هو جوهر الإسلام الذي يربط الفرد بالجماعة، والعبادة بالعمران، والنية بالإنسانية.
والحاصل أنّ السلسلة الذهبيّة ليست بدعةً في الدين، ولا فلسفةً خيالية، بل هي استحضارٌ عمليّ لمعنى الإخلاص والإيثار في عبادة الله، وتوسيعٌ لمفهوم الإحسان حتى يشمل الأحياء والأموات، الأولين والآخرين.
وما أجمل أن يعيش الإنسان بهذه النيّة، فيُصبح كلّ تسبيحٍ له رسالة، وكلّ صلاةٍ له صدقة، وكلّ نَفَسٍ له أثرٌ ممتدّ في سجلّ الخير إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
✍🏻 ابو خالد
تعليق:
ما شاء الله تبارك الله
جزاكم الله خيرا على إهداء هذا الخير العميم، ونشره في العالمين عبر موقعنا المتواضع..
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا وإياكم والشيخ المصلح الذي فتح الله عليه قبلنا بهذا الفتح-ممن ساهم في إحكام هذه السلسلة الذهبية في العالمين
آمين
هذا هو ركن العمران الأعظم:
الذكر، والنية المخلصة، وابتغاء الخلاص والنجاة والفوز لجميع من له قلب سليم
