استثمر في نفسك اليوم، واجعل التعلم عادة يومية. ابدأ الآن واجعل العلم رفيقك في رحلة النجاح. تابعنا على تيليجرام!

قل صدق الله: كيف يؤسس القرآن "عالمية المنهج" على "مركزية الصدق"؟


في خضم الجدل مع أهل الكتاب حول الانتماء والتشريع، يقدم القرآن فصل الخطاب في آية هي بمثابة إعلان الحقيقة وتأسيس للمنهج. إن آية ﴿قُلْ صَدَقَ اللَّهُ ۗ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ...﴾ ليست مجرد أمر بالاتباع، بل هي الآية العمود التي تجعل من "الصدق" هو القيمة المركزية التي تدور في فلكها كل قيم الدين. هذا المقال هو محاولة لاستكشاف كيف أن هذه الآية تؤسس لمنهج عالمي يتجاوز الانتماءات الضيقة، وكيف أنها تربط البر والتقوى والأمانة كلها بمركز واحد هو الصدق.

 الآية العمود: "الصدق" كقاعدة للاتباع ومنهج للحياة

إن الآية العمود في هذا المقطع هي ﴿قُلْ صَدَقَ اَ۬للَّهُۖ فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَٰهِيمَ حَنِيفاٗۖ وَمَا كَانَ مِنَ اَ۬لْمُشْرِكِينَۖ﴾ (آل عمران، 95)
. فهي النتيجة المنطقية للمحاججة السابقة، والقاعدة التي يُبنى عليها الأمر بالاتباع. فبعد أن اتضح كذب أهل الكتاب بعجزهم عن الإتيان بالتوراة، يأتي الأمر قُلْ صَدَقَ اللَّهُ كإعلان لنتيجة المحاكمة. وبناءً عليه، فإن وجوب الاتباع هو اللازمة المنطقية. وكما يوضح الإمام البقاعي، فإنه "إذ قد تبين صدقه تعالى في جميع ما قال وجب اتباعه في كل ما يأمر به، وأعظمه ملة إبراهيم". والحنيفية التي هي جوهر هذه الملة، ليست مجرد دين، بل هي منهج في البحث عن الصدق، فهي كما يعرفها البقاعي: "تابعاً للحجة إذا تحررت، غير متقيد بمألوف".

"دائرة القيم": الصدق مركزًا والأمانة محيطًا

إن الصدق ليس مجرد قيمة بجانب القيم، بل هو القيمة المركزية التي لا تقوم بقية القيم إلا بها، كما يوضح الفيلسوف طه عبد الرحمن في نموذجه الهندسي للأخلاق، حيث "الصدق هو المركز والأمانة هي المحيط". فالصدق هو روح القيم؛ فالبر بدون صدق هو رياء، والتقوى بدون صدق هي نفاق. والأمانة هي الثمرة والتجلي العملي لهذا الصدق في محيط المعاملات والسلوك. وهذا يفسر كيف أن مقاطع الأمانة التي مرت بنا هي تطبيق مباشر لمركزية الصدق. والنموذج الكامل لهذه الدائرة القيمية هو شخص النبي صلى الله عليه وسلم، الذي عُرف قبل البعثة وبعدها بالصادق الأمين.

"البر الصادق": من إنفاق المحبوب إلى الثبات على المنهج

إن البر الذي هو غاية سامية، لا يُنال إلا بتحقيق شرط الصدق فيه. فآية ﴿لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ...﴾ ليست مجرد دعوة للإنفاق، بل هي اختبار لصدق المحبة والإيمان. فالتضحية بالمحبوب هي البرهان الأقوى على صدق الادعاء. كما أن اتباع ملة إبراهيم هو البرهان على صدق الانتماء إلى قافلة التوحيد، في مقابل كذب الادعاءات الطائفية التي لا تقوم على حجة.

 حَقَّ تُقَاتِهِ: الوصية بـ "صدق التقوى"

إن الوصية الخاتمة ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾ هي في جوهرها وصية بصدق التقوى. فهذا الأمر، كما يقول الإمام البقاعي، هو دعوة لـ "صدقوا دعواكم [بالإيمان] بتقوى ذي الجلال والإكرام". فحق تقاته هو أن تكون صادقًا في مجاهدة النفس ضد أمراضها، وخصوصًا ضد الاستغناء والاستبداد. والغاية النهائية هي أن يستمر هذا الصدق في التقوى والانقياد حتى الخاتمة.

الخاتمة: الصادق الأمين كنموذج

لا يقدم القرآن مفاهيم مجردة، بل يقدم منهجًا متكاملاً لصناعة الإنسان الصادق. والنموذج الكامل لهذه الدائرة القيمية هو شخص النبي صلى الله عليه وسلم. وهو يدعونا لاتباع هذا المنهج لنكون بحق من أولى الناس بإبراهيم وبهذا النبي الكريم.


كتب حسان الحميني،
والله الموفق.

Post a Comment

أووپس!!
يبدو أن هناك خطأ ما في اتصالك بالإنترنت. يرجى الاتصال بالإنترنت وبدء التصفح مرة أخرى.
الموافقة على ملفات تعريف الارتباط
نحن نقدم ملفات تعريف الارتباط على هذا الموقع لتحليل حركة المرور وتذكر تفضيلاتك وتحسين تجربتك.