استثمر في نفسك اليوم، واجعل التعلم عادة يومية. ابدأ الآن واجعل العلم رفيقك في رحلة النجاح. تابعنا على تيليجرام!

منهج أولي الألباب: كيف يحول القرآن "آيات الكون" إلى "درع للصمود"؟


في خضم المواجهة مع أهل الكتاب والمشركين، وبعد الإخبار الحتمي بأن المؤمنين سيواجهون ﴿أَذًى كَثِيرًا﴾، يقدم القرآن "الوصفة العلاجية" و"الدرع الحصين" لهذه الحرب النفسية. هذا المقطع ليس مجرد دعوة للصبر، بل هو تأسيس لـ "منهج تفكر" متكامل يحول "اليقين الكوني" إلى "ثبات نفسي". هذا المقال هو محاولة لاستكشاف كيف أن آيات "التفكر في الخلق" هي "الآية العمود" التي تمثل "مصنع الصبر والتقوى"، وكيف أنها تبني "شخصية أولي الألباب" القادرة على تجاوز الأذى والارتقاء نحو الله.

 الآية العمود: "التفكر في الخلق" كمنهج لصناعة اليقين

إن "الآية العمود" في هذا المقطع هي ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ وما يتبعها من وصف لحالهم. فهي الجواب العملي على سؤال: "كيف نصبر ونتقي؟". والمنهج يبدأ بالنظر والفكر، فكما يقول الشيخ الطوسي رحمه الله، في هذه الآية "دلالة على وجوب النظر والفكر، والاعتبار بما يشاهد من الخلق والاستدلال على الله تعالى". وكما يشير ابن عاشور رحمه الله، فإن هذا الانتقال إلى "غرض عام" وهو الاعتبار بالكون، هو "إيذان بانتهاء الكلام... وشأن القرآن أن يختم بالموعظة لأنّها أهمّ أغراض الرسالة".

"آلية التفكر": من "الذكر" إلى "التوبة"

إن "التفكر" المنتج ليس عملية عقلية مجردة، بل له شروطه وآلياته. فهو يبدأ بالذكر الدائم ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ﴾، لأن التفكر لا يمكن أن يثمر بدون "ذاكرة إيمانية" حية تستدعي معاني أسماء الله وصفاته عند رؤية آياته. ثم إن التفكر الصافي يحتاج إلى "قلب طاهر"، ولذلك نجد أن أول ثمرة لليقين الكوني (رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا) هي "التوبة والاستغفار" (رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا...). فالتفكر العميق يريك عظمة الخالق، فتستحضر ضعفك وذنبك، فتتطهر بالتوبة، فيزداد تفكرك صفاءً وعمقًا.

من "الظاهرة" إلى "الآية"، ومن "التجربة" إلى "التكليف"

إن "أولي الألباب" يتميزون بـ "نمط رؤية" متفرد، ينقلهم من المستوى المادي إلى المستوى القيمي. فهم لا يرون الكون مجرد "ظواهر" طبيعية، بل يرونها "آيات" ورسائل من الله. وهم لا يكتفون بـ "التفكير" في تحليلها، بل يمارسون "التفكر" في دلالاتها. وهذا ما ينقلهم من مستوى "عقل التجربة" الذي يكتفي بالوصف والنفع، إلى مستوى "عقل التكليف" الذي يسأل: "ما هو واجبي تجاه هذا الخالق العظيم؟". وكما يوضح ابن عطية رحمه الله، فإن "الألباب في هذه الآية: هي ألباب التكليف لا ألباب التجربة".

"الصبر والتقوى" كـ "ثمرة" لليقين الكوني

إن "اليقين" الذي ينتجه هذا التفكر (رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا) هو "المصدر" الحقيقي للقوة النفسية. فالصبر والتقوى المطلوبان في مواجهة الأذى ﴿وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَقُوا فَإِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾، ليسا مجرد "قرار أخلاقي"، بل هما "الثمرة الطبيعية" لمن أيقن بحكمة الله وعدله من خلال التفكر في خلقه. وهذا اليقين يثمر "دعاءً" صادقًا، وهذا الدعاء تقابله "استجابة" حتمية: ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم...﴾.

من التفكر في الكون إلى الصمود في الميدان

يقدم القرآن "منهجًا عمليًا" لمواجهة "الحرب النفسية". إنه يدعو "الناهض" ألا يغرق في "ضجيج الأذى" اليومي، بل أن "يرفع بصره" إلى  آيات الكون العظيم، فيستمد منها "اليقين" الذي يورث "الصبر"، و"الصبر" الذي هو "عزم الأمور" وأساس كل نصر وثبات.


كتب حسان الحميني،
والله الموفق.

إرسال تعليق

أووپس!!
يبدو أن هناك خطأ ما في اتصالك بالإنترنت. يرجى الاتصال بالإنترنت وبدء التصفح مرة أخرى.
الموافقة على ملفات تعريف الارتباط
نحن نقدم ملفات تعريف الارتباط على هذا الموقع لتحليل حركة المرور وتذكر تفضيلاتك وتحسين تجربتك.