في حياة الإنسان تمرّ به لحظات موجعة، وأيام ثقيلة كأنّها الجبال، يتمنى فيها لو تنشقّ الأرض فتبتلعه، أو يذوب كما يذوب الملح في الماء! فالألم إذا نبع من داخله، صبر عليه وسكت، أما إذا جاءه الجرح من غيره، من قريبٍ أو حبيبٍ، كان ذلك كطعنة في القلب لا تندمل. عندها تفيض النفس المقهورة بآهةٍ ممزوجةٍ بالدعاء، وربّ دعوة مظلومٍ تصعد إلى السماء حاملةً في طيّاتها نذر الخراب للظالم.
إنّ اللسان في حال المظلومية قد ينطق بما لا يُقال في غيرها، فلا يُلام المظلوم إذا اشتدّ كلامه، فقد قال الله تعالى:
لَا يُحِبُّ اللّٰهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ ۚ وَكَانَ اللّٰهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (النساء: 148)
أي إنّ الله لا يحبّ الفحش ولا الغلظة في القول، إلا حين يُظلم الإنسان، فيتكلم دفاعًا عن نفسه وكرامته، فالله يسمع شكواه ويعلم حاله. ذلك لأنّ الفطرة البشرية تأبى السكوت عند الظلم، والقلوب المقهورة لا تملك إلا أن تصرخ، فالسكوت في موضع القهر موتٌ بطيء، والكلمة في تلك اللحظة ليست عدوانًا، بل دفاعًا مشروعًا عن الإنسانية المهدورة.
وقد أشار الحكيم الشيخ سعدي الشيرازي إلى هذا المعنى بدقّة حين قال:
إِذَا يَئِسَ الإِنسَانُ طَالَ لِسَانُهُ
كَسَنُورٍ مَغْلُوبٍ يَصُولُ عَلَى الكَلْبِ
أي إنّ الإنسان إذا ضاق به الأمل، وامتلأ قلبه يأسًا، امتدّ لسانه كالمغلوب من القطط يهاجم الكلب دفاعًا عن نفسه. فالقطة، وإن كانت أضعف، حين تُهاجم تدافع بكل ما فيها من قوةٍ وغريزةٍ، غير عابئةٍ بما يصيبها من الأذى، لأنها تُقاتل عن بقائها. وهكذا المظلوم حين يُحاصر باليأس، يثور بلسانه، لا عن قسوةٍ، بل عن دفاعٍ فطريٍّ مشروع، لأنّ في الصمت عند القهر خنوعًا، وفي الصرخة حياةً للكرامة.
والمظلوم في تلك اللحظة لا يرى له حاميًا سوى ربّه، فيوكل أمره إلى الله، وينتظر عدله في هدوءٍ مطمئنٍّ، فهو يعلم أنّ الله لا يُغفل دمعة المقهور، ولا آهة المظلوم، ولا دعوةً خرجت من قلبٍ منكسرٍ في ظلمة الليل.
وقد صدق الشاعر إذ قال:
إِذَا تَجَاوَزَ الدُّرْبُ حَدَّهُ صَارَ دَوَاءً،
وَإِذَا تَجَاوَزَ الظُّلْمُ قَدْرَهُ كَانَ فَنَاءً.
فما أشدّها من سنّةٍ إلهيةٍ عادلة: أنّ الألم إذا اشتدّ انقلب شفاءً، وأنّ الظلم إذا فاض زال، لأنّ الله لا يدوم عنده جورٌ، ولا يضيع في ملكه حقٌّ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صفحة من تأملات النفس حين ييأس الإنسان، لكنها تجد في الله رجاءها الذي لا يخيب.
✍🏻 ابو خالد بن ناظر الدین القاسمی
