إنَّ الكَلِمَةَ لَهَا سُلطَانٌ يَبْلُغُ مَا لَا تَبْلُغُهُ السُّيُوفُ، وَإِنَّ الحُرُوفَ إِذَا خَرَجَتْ مِنْ غَيْرِ وَزْنٍ أَوْ حِكْمَةٍ، كَانَتْ كَالرِّمَاحِ تُدْمِي القُلُوبَ قَبْلَ الأَجْسَادِ. وَلِهَذَا قِيلَ: «رُبَّ كَلِمَةٍ أَوْقَدَتْ حَرْبًا، وَرُبَّ صَمْتٍ أَطْفَأَ فِتْنَةً».
فِي زَمَنٍ يَغْلِبُ فِيهِ الصَّوْتُ عَلَى العَقْلِ، وَيَسْبِقُ فِيهِ القَوْلُ الفِكْرَ، يَبْقَى الصَّمْتُ عِبَادَةَ العُقَلَاءِ، وَسِتْرَ الحُكَمَاءِ، وَمَلْجَأَ مَنْ يُرِيدُ السَّلَامَةَ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا.
ومن دقائق الحِكْمَة أنَّ الصَّمْتَ لَيْسَ عَجْزًا، بَلْ قُدْرَةٌ عَلَى ضَبْطِ النَّفْسِ، وَحِفْظِ اللِّسَانِ، وَصَوْنِ العَقْلِ عَنِ الزَّلَلِ. وَقَدْ قِيلَ: «إِذَا كَانَ الكَلامُ مِنْ فِضَّةٍ، فَالصَّمْتُ مِنْ ذَهَبٍ».
وفيما يلي عَشْرُ مَوَاطِنَ يُسَنُّ فِيهَا الصَّمْتُ، بَلْ يَجِبُ عَلَى كُلِّ حَكِيمٍ أَنْ يَتَحَرَّزَ فِيهَا مِنْ زَلَلِ اللِّسَانِ وَزَلَّةِ البَيَانِ:
١- اصْمُتْ إذا جَهِلْتَ التَّفَاصِيلَ، فَإِنَّ نِصْفَ الحَقِيقَةِ كَالكَذِبِ كُلِّهِ.
٢- اصْمُتْ حين تَغْلِبُكَ العَوَاطِفُ، فَالعَاقِلُ مَنْ أَخْفَى نَارَ قَلْبِهِ وَأَطْفَأَ لَهِيبَ لِسَانِهِ.
٣- اصْمُتْ عِندَ الغَضَبِ، فَإِنَّ الكَلِمَةَ فِي حَرَارَةِ الغَيْظِ سَهْمٌ لَا يَرْجِعُ.
٤- اصْمُتْ إذا خَشِيتَ أَنْ تُؤْذِي كَلِمَاتُكَ قَلْبًا، فَالجِرَاحُ اللِّسَانِيَّةُ لَا تَلْتَئِمُ.
٥- اصْمُتْ إذا كَانَ كَلَامُكَ سَيَهْدِمُ جِسْرَ صَدَاقَةٍ بُنِيَ بِالسِّنِينَ.
٦- اصْمُتْ إذا لَمْ تَقْدِرْ عَلَى البَيانِ إِلَّا بِالصِّيَاحِ، فَالصَّوْتُ العَالِي دَلِيلُ العَقْلِ الضَّيِّقِ.
٧- اصْمُتْ إذا كَانَ صَمْتُكَ سَيَحْفَظُ وُدًّا أَوْ يُبْقِي حُبًّا.
٨- اصْمُتْ عِندَ الجِدَالِ مَعَ الأَحْمَقِ، فَإِنَّهُ يُغْلِبُكَ بِخِبْرَتِهِ فِي السَّفَهِ.
٩- اصْمُتْ إِذَا ائْتَمَنَكَ صَدِيقٌ عَلَى سِرٍّ، فَالأَمَانَةُ دِينٌ، وَالخِيَانَةُ لَعْنَةٌ.
١٠- اصْمُتْ إذا لَمْ يُسْأَلْكَ الرَّأْيُ، فَالكَلِمَةُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا تَكُونُ حِمْقَةً.
فَالصَّمْتُ فِي مَوَاطِنِ الحِكْمَةِ عِبَادَةٌ، وَفِي مَجَالِسِ السَّفَهِ نَجَاةٌ، وَفِي زَمَنِ الضَّجِيجِ فَضِيلَةٌ.
وَمَنْ أَحْسَنَ الصَّمْتَ فَقَدْ بَلَغَ فُصُولَ البَيَانِ، وَمَنْ عَرَفَ مَتَى يَنْطِقُ، فَقَدْ مَلَكَ مَفَاتِيحَ الحِكْمَةِ.
فَهُوَ الصَّمْتُ الَّذِي يُنْقِذُكَ مِنْ خَطَأٍ، وَيَرْفَعُكَ فِي أَعْيُنِ العُقَلَاءِ، وَيُقَرِّبُكَ مِنْ اللهِ، الَّذِي يَعْلَمُ سِرَّ الكَلِمَةِ قَبْلَ أَنْ تُولَدَ عَلَى اللِّسَانِ.
فإنَّ الصَّمْتَ فِي مَعَارِكِ الأَصْوَاتِ لَيْسَ انْسِحَابًا، وَلَا سُكُوتًا عَنِ الحَقِّ، بَلْ هُوَ رُجُوعٌ إِلَى مَصْدَرِ الفِكْرِ، وَاسْتِجْمَاعٌ لِقُوَى العَقْلِ لِكَيْ يَنْطِقَ عِنْدَ الحَقِيقَةِ نُطْقًا يُحْيِي وَلَا يُمِيتُ، وَيَبْنِي وَلَا يَهْدِمُ.
فَكُلُّ نَهْضَةٍ حَقِيقِيَّةٍ فِي تَارِيخِ الأُمَمِ بَدَأَتْ بِلَحْظَةِ صَمْتٍ، يَعْقُبُهَا تَفَكُّرٌ، ثُمَّ كَلِمَةٌ تُغَيِّرُ مَسَارَ الحَيَاةِ.
وَمَا التَّجْدِيدُ فِي الفِكْرِ الإِسْلَامِيِّ إِلَّا رُجُوعٌ إِلَى صَمْتِ التَّدَبُّرِ قَبْلَ صَخَبِ الجَدَلِ، وَتَأَمُّلٌ فِي مَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ قَبْلَ التَّسَابُقِ فِي فُتُوحِ الأَلْسُنِ.
فِي كُلِّ مَجْتَمَعٍ تَتَكَاثَرُ فِيهِ الأَصْوَاتُ وَتَتَنَازَعُ المَنَابِرُ، يَضِيعُ فِيهِ صَوْتُ الحِكْمَةِ، وَتَسُودُ فِيهِ خِطَابَاتُ الشِّقَاقِ. وَهُنَا يَكُونُ الصَّمْتُ فِعْلًا إِصْلَاحِيًّا، وَمَوْقِفًا تَغَيُّرِيًّا؛ لِأَنَّهُ يُعِيدُ لِلْكَلِمَةِ قِيمَتَهَا، وَلِلْعَقْلِ هَيْبَتَهُ، وَلِلرُّوحِ سَكِينَتَهَا.
إِنَّ مِنْ سُنَنِ اللهِ فِي التَّغْيِيرِ أَنْ لا يَتَغَيَّرَ الخَارِجُ حَتَّى يَسْكُنَ الدَّاخِلُ: ﴿إِنَّ اللّٰهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ [الرعد: ١١].
وَمَا التَّغْيِيرُ فِي النُّفُوسِ إِلَّا ثَمَرَةُ صَمْتٍ يُنْصِتُ فِيهِ الإِنْسَانُ لِصَوْتِ قَلْبِهِ، وَلِوَحْيِ عَقْلِهِ، وَلِمَا يُوحِيهِ القُرْآنُ مِنْ مَعَانٍ فِي سَكِينَةِ التَّدَبُّرِ.
إنَّ الأُمَمَ الَّتِي تَتَعَلَّمُ فَنَّ الصَّمْتِ، تَتَعَلَّمُ مَعَهُ فَنَّ السَّمَاعِ، وَمَنْ سَمِعَ أَحْسَنَ الفَهْمَ، وَمَنْ فَهِمَ أَحْسَنَ العَمَلَ، وَمَنْ عَمِلَ أَحْسَنَ النَّهْضَةَ.
أَمَّا مَجْتَمَعُ الضَّجِيجِ فَهُوَ مَجْتَمَعُ الانْفِعَالِ، يَنْدَفِعُ قَبْلَ أَنْ يَفْهَمَ، وَيَحْكُمُ قَبْلَ أَنْ يَعْرِفَ، فَيَبْنِي مَسَارَهُ عَلَى سَرَابٍ مِنَ الكَلِمَاتِ.
وَفِي سُنَنِ الحَيَاةِ أَنَّ الكَلِمَةَ الَّتِي تَصْدُرُ عَنْ تَدَبُّرٍ، تُصْبِحُ بَذْرَةَ تَغْيِيرٍ. وَأَمَّا الكَلِمَةُ الَّتِي تَخْرُجُ مِنْ فَوْرَةِ الجَدَلِ، فَإِنَّهَا تُثِيرُ الغُبَارَ وَلَا تُنْبِتُ شَيْئًا.
فَكَمْ مِنْ مُجْتَمَعٍ هَدَمَتْهُ كَلِمَةٌ، وَكَمْ مِنْ أُمَّةٍ أَحْيَاهَا صَمْتُ رَجُلٍ حَكِيمٍ!
وَلِذَلِكَ كَانَ الصَّمْتُ فِي التَّرَاثِ الإِسْلَامِيِّ مَظْهَرًا مِنْ مَظَاهِرِ العِلْمِ وَالرُّقِيِّ.
قَالَ سَيِّدُنَا عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
قَلْبُ العَاقِلِ خَزَائِنُهُ، وَالصَّمْتُ مِفْتَاحُهُ.
وَقَالَ سَيِّدُنَا عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ:
مَنْ كَثُرَ كَلَامُهُ كَثُرَ خَطَؤُهُ.
فَإِذَا كَانَ العَالِمُ المُجَدِّدُ يُرِيدُ لِفِكْرِهِ أَنْ يُؤَثِّرَ، فَلْيَتَعَلَّمْ أَوَّلًا فَنَّ الصَّمْتِ عَنِ الزَّخَمِ، وَالتَّرَفُّعِ عَنْ خُصُومَاتِ الأَلْسُنِ، لِيَتَكَلَّمَ فِي سَمَاءِ الفِكْرِ لَا فِي سُوقِ الجِدَالِ.
إنَّ التَّجْدِيدَ الإِسْلَامِيَّ لَا يَكُونُ بِكَثْرَةِ المُنَاظَرَاتِ، بَلْ بِعُمقِ الصَّمْتِ الَّذِي يَسْتَخْرِجُ مِنْ نُصُوصِ الوَحْيِ مَا يُجَدِّدُ الحَيَاةَ. وَكَمَا أَنَّ الزَّرْعَ لَا يَنْبُتُ فِي صَخَبِ الرِّيَاحِ، كَذَلِكَ الفِكْرُ لَا يُزْهِرُ فِي ضَجِيجِ العَاطِفَةِ.
فَالصَّمْتُ إِذًا سُنَّةٌ نَهْضَوِيَّةٌ، وَأَدَبٌ رَبَّانِيٌّ، وَمِفْتَاحُ كُلِّ تَجْدِيدٍ صَادِقٍ.
فَمَنْ صَمَتَ لِيَتَفَكَّرَ، نَطَقَ بِمَا يُحْيِي الأُمَّةَ. وَمَنْ تَكَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يَصْمُتَ، أَهْلَكَ مَا بَنَاهُ الأَوَّلُونَ.
فَالصَّمْتُ نُورٌ فِي زَمَنِ الضَّجِيجِ، وَحِكْمَةٌ فِي زَمَنِ الغَفْلَةِ، وَبِدَايَةُ كُلِّ نَهْضَةٍ تَصْدُرُ مِنْ نُورِ العَقْلِ وَسَكِينَةِ القَلْبِ.
﴿وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا﴾ [الأحزاب: ٧٠] فَالقَوْلُ السَّدِيدُ لَا يَخْرُجُ إِلَّا مِنْ نَفْسٍ سَكَنَتْ، وَقَلْبٍ تَدَبَّرَ، وَلِسَانٍ صَمَتَ حَتَّى أَذِنَ اللهُ لَهُ أَنْ يَنْطِقَ بِالحَقِّ.
✍🏻 ابو خالد القاسمی
