كانتِ المدينةُ المنوَّرةُ مدينة النبيِّ ﷺ، ومهبطَ الوحي، ومهوى الأفئدة تعيشُ في ذٰلك اليوم لحظةً لم تشهد مثلها منذ قرّ الليلُ على صدرها، ومنذ أذّن بلالٌ رضي الله عنه أولَ مرةٍ فوق موضعٍ صار بعد ذلك قلبَ الدنيا.
لقد بكتِ المدينةُ… نعم، بكت كما لم تبكِ منذ يومٍ ودّعت فيه رسولَ الله ﷺ إلى الرفيق الأعلى. بكت يومَ سقطت الجدران التي حملت عبقَ السكينة، وشهدت سيرة الزهد، وضمّت أسرارَ النبوة.
المشهد الذي يقطّع نياط القلب
تلك الجدران… جدرانُ حجراتِ أمهاتِ المؤمنين رضي الله عنهن، التي نزل فيهـا جبريلُ عليه السلام، وخفقَ فيها جناحُ الوحي، وتنسّمَتْ أرجاؤها عبيرَ الإيمان، وسرت على ترابها خطواتُ خير النساء والصالحات.
كانت جدرانًا من طينٍ مدهونٍ باللبن، وأسقفًا من جريد النخل،
وأبوابًا من سعفٍ أو خِرَقٍ بسيطة. لكن هيبتها كانت تخرسُ الملوك، وبساطتها كانت تُعلِّم الدنيا معنى الفقر المختار، والزهد الذي رفع الله به نبيَّه ﷺ فوق العالمين.
في سنة ستٍّ وتسعين للهجرة، حين ضاقت مسجدُ رسولِ الله ﷺ بالمصلين، جاء من الخليفة الوليد بن عبد الملك أمرٌ بتوسعة المسجد، وضمِّ حجرات أمَّهات المؤمنين إليه.
فوصل الكتابُ إلى والي المدينة عمر بن عبد العزيز رحمه الله، وكان يومئذٍ شابًّا نَيِّرَ العقل، شديدَ المحبة لآثار النبوة.
جمع العلماءَ، والمشايخ، والوجوه، والصالحين، وقرأ عليهم كتاب الخليفة. وما إن فرغ من القراءة حتى تغيّرت وجوهُ القوم، وخنقت الغصّةُ أصواتَهم، وتفجّر البكاءُ في المسجد النبوي كأنه بكاءُ ثكلى.
قالوا بأصواتٍ تختلط فيها الحرقةُ بالرجاء: هذه هي الحجرات التي عاش فيها رسولُ الله ﷺ… فدعُوها كما كانت فهي درسُ السكينة، ورمزُ التواضع، وعنوانُ الفقر الذي أحبَّه الله لنبيّه.
وقالت ألسنةُ العلماء: لعلَّ الناسَ إذا رأوا هذه البيوتَ الطاهرة تذكّروا أن رسولَ الله ﷺ كان يستطيع أن يملك كنوز الأرض، ولكنه اختار أن يبيت طاوِيًا لا يجد إلا التمر والماء.
وتقدّم الصحابي الجليل سَهْلُ بنُ حُنَيْف رضي الله عنه، وقد انحدرت دموعُه على لحيته البيضاء، وقال: ليتَ هذه الحجرات تُتْرَك كما هي،
ليعرف الناس أن الله لم يفتح لنبيِّه من الدنيا إلا بقدر البلغة،
وأن السموّ كلّ السموّ في التقلّل منها.
فكتب عمر بن عبد العزيز رسالةً إلى الوليد بن عبد الملك، ونقل إليه بكاءَ أهل المدينة، وخشيتهم أن تُجْتَثَّ آثارُ النبوة.
ولكن الأمرَ جاء صريحًا، ولا بُدَّ من تنفيذه.
اليوم الذي بكت فيه المدينة
فلما جاء يومُ الهدم، واجتمع العمّال، وبدأت معاولهم تُصيب الجدار الأول… ارتجّت المدينة كلها. سمع الناس صوتَ السقوط فاختنقتْ أصواتهم، وكأنَّ حجرًا سقط على قلوبهم قبل أن يسقط على الأرض. خرج الشيوخُ والنساءُ والصبيانُ إلى الطرقات، والعيون تفيض بالدموع، والقلوب تصرخ:
هذه بيوتُ النبي ﷺ! هذه أطهر بقاع الأرض بعد قبره الشريف!
وارتفع النحيبُ في أرجاء المدينة، حتى قيل - كما تذكر الروايات–: ما سمعتِ المدينةُ بكاءً كهذا إلا يومَ مات رسولُ الله ﷺ.
كان يومًا من أيام الانكسار العظيم، يومًا يشهد أن المحبة للرسول ﷺ قد سكنت في أعماق القلوب، وأن تلك الجدران الطينية كانت عندهم أعظمَ من كل قصور الدنيا.
بين بقاء الأثر وضرورة التوسعة
ولم يكن القرار كراهيةً للأثر، ولا استخفافًا بالتراث النبوي،
لكن حاجةَ الأمة إلى مسجدٍ أوسع، ومكانٍ يجمع المصلين والوافدين، فرضت هذا الاختيار المؤلم الموجع.
فتوسّع المسجد النبوي، ودخلت بيوتُ أمهات المؤمنين في ساحته، وبقي الحزنُ في القلوب أثرًا لا يمحوه الزمان.
أما المدينةُ… فقد بكت ذلك اليوم، كما تبكي الأمُّ ولدَها،
وكما تبكي الأرضُ حين تفقد شيئًا من قدسيتها.
وهكذا بقيت القصة درسًا خالدًا أنّ البساطة كانت تاج النبي ﷺ، وأنّ الزهد كان جلاله الحقيقي، وأنّ الحبَّ الصادق هو الذي جعل أهل المدينة يبكون على الطين والجريد لا لأن قيمتها مادية… بل لأنها شهدت حياةَ أطهر بشرٍ مشت قدمُه على الأرض.
( البداية والنهاية لابن كثير، ج 12، ص 413 – بتصرّف وتوسّع)
✍🏻 ابو خالد القاسمی
