استثمر في نفسك اليوم، واجعل التعلم عادة يومية. ابدأ الآن واجعل العلم رفيقك في رحلة النجاح. تابعنا على تيليجرام!

فقه الستر: كيف يبني القرآن "الأمان" في مجتمع العدالة؟


في مقطع هو من أشد مقاطع القرآن توترًا وكشفًا لضعف النفس البشرية وخيانتها، يضع القرآن "صمام الأمان" و"باب الرحمة" الذي يحفظ توازن المجتمع ويمنعه من الانهيار. هذا المقطع ليس مجرد "قانون جنائي" يعالج الخيانة والظلم، بل هو "مدرسة" في "فقه الستر"، يكشف عن أن حاجة الإنسان -حاكمًا ومحكومًا- إلى "ستر الله" هي ضرورة وجودية. هذا المقال هو محاولة لاستكشاف كيف أن آية "الاستغفار" هي "الآية العمود" التي تقدم "الملجأ" في وجه صرامة العدالة، وتؤسس لـ"ميزان قسط" يجمع بين "كشف الخيانة" و"فتح باب التوبة".

الآية العمود : "الاستغفار" كملجأ وحصن في ساحة القضاء

إن "الآية العمود" في هذا المقطع (الحزب 10، الثمن 4) هي ﴿وَاسْتَغْفِرِ اِ۬للَّهَۖ إِنَّ اَ۬للَّهَ كَانَ غَفُوراٗ رَّحِيماٗۖ﴾ (105)
فهي "الملجأ" الذي يلوذ به الجميع في هذا السياق المشحون: "الخائن" ليجد التوبة، و"المختان لنفسه"، وحتى "القاضي" ليحتمي من الزلل.
 والاستغفار في أصله اللغوي، كما يوضح ابن فارس، هو "طلب الستر". وهذا ما يذهب إليه الطبري غالبًا. وحديث "سيد الاستغفار" هو "النموذج الكامل" لهذا الطلب، القائم على الاعتراف بالعبودية والذنب، وإفراد الله بالمغفرة بقوله: "فَاغْفِرْ لِي، فَإِنَّهُ لا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا أَنْتَ".

 "كل المآسي إخلال بالأمانات": من الأمانة الشاملة إلى العدل الشامل

إن "جريمة الخيانة" التي يعالجها المقطع (الثمن) هي "نموذج مصغر" لأصل كل المآسي الإنسانية: "الإخلال بالأمانات". ومهمة الناهض هي "تحرير" مفهوم "الأمانة" من سجن الأموال ليشمل "الأمانة الشاملة" التي هي جوهر "فقه الائتمان". فهناك أمانة الجوارح، وأمانة السلطة، وأمانة العلم. بل إن هناك طبقات أعمق للأمانة، كـ "أمانة القلب" التي تكون الخيانة فيها بنسبة الفضل للنفس وادعاء الملكية فيها، و"أمانة السر" التي هي أخص ما بين العبد وربه، وتكون الخيانة فيها بالالتفات إليها والاستحسان لها.

"الستر الإيجابي": الفضل الإلهي كحصن وقائي

إن "ستر الله" ليس فقط "سترًا علاجيًا" بعد الذنب، بل هو أيضًا "ستر وقائي" يمنع من الوقوع في الزلل. وهذا يتجلى في ختام المقطع: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ...﴾. فـ"فضل الله العظيم" هنا هو "ستره العظيم"، الذي تجلى في عصمته لنبيه، وفي إنزال "الكتاب والحكمة" كحصن وقائي دائم يسترنا من ظلمات الجهل والهوى.

"المسؤولية المطلقة" و"الرحمة الواسعة"

يضع القرآن "ميزانًا" دقيقًا يجمع بين "تحديد المسؤولية" الفردية بشكل قاطع، و"فتح باب الرحمة" بشكل واسع. فآية ﴿وَمَن يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَىٰ نَفْسِهِ...﴾ هي "قانون المسؤولية المطلقة"، والضمانة هي أن الله عَلِيمٌ بحقيقة الفاعل، حَكِيمٌ في وضع الإثم على كاسبه فقط. وفي مقابل هذه الصرامة في تحديد المسؤولية، يأتي "باب الرحمة" الواسع في آية الاستغفار: ﴿وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾.

الخاتمة : مجتمع الستر والعدل

إن القرآن يبني "مجتمعًا متوازنًا" لا يقوم على "العدالة" الصارمة وحدها، ولا على "الرحمة" المتساهلة وحدها. بل هو "مجتمع" يجمع بين "صرامة" كشف الخيانة وتحديد المسؤولية، وبين "رحمة" فتح باب "الاستغفار" و"الستر" على الدوام. وهذا هو "الميزان القسط" الذي يضمن العدل والأمان للمجتمع.



كتب حسان الحميني،
والله الموفق.

إرسال تعليق

أووپس!!
يبدو أن هناك خطأ ما في اتصالك بالإنترنت. يرجى الاتصال بالإنترنت وبدء التصفح مرة أخرى.
الموافقة على ملفات تعريف الارتباط
نحن نقدم ملفات تعريف الارتباط على هذا الموقع لتحليل حركة المرور وتذكر تفضيلاتك وتحسين تجربتك.