تُعدّ سيرةُ عديّ بن حاتم الطائي رضي الله عنه مثالًا بارزًا لتحوّل الإنسان من قمّة العداوة إلى قمّة الهداية، فقد عاش سنواتٍ طويلة ينظر إلى الإسلام ونبيّه ﷺ نظرة ازدراء وخوف على ملكه وزعامته، إذ كان سيدًا في قومه، وارثًا لمجد أبيه حاتم الطائي الذي ضُرب به المثل في الكرم، وكانت قبيلته تطيعه وتدفع إليه ربع أموالها، فكان يرى في انتشار الإسلام خطرًا مباشرًا على نفوذه وسلطانه. ومع ذلك كله، جرت سنّة الله في القلوب، فانقلب بغضه الطويل إلى نورٍ وهداية بعد عشرين سنة من الجفاء.
ولمّا رأى توسّع الإسلام وازدياد شأن المسلمين، حمله ذلك على الفرار إلى الشام، وترك خلفه أهله، وبقي في قلبه خوفٌ على سلطانه وانقباضٌ من دعوة الحق. أما أخته سفانة، فقد وقعت في الأسر، غير أنّ رسول الله ﷺ عاملها أعظم معاملة، فأكرمها، وعرّفها بحقها، وردّها إلى أهلها بزاد وراحلة. وكانت هذه المكرمة من النبي ﷺ بداية تحوّل كبير في قلب عديّ، فقد رجعت إليه أخته تحمل من أخلاق النبي ﷺ ما لا يستطيع القلب إنكاره، فعاتبته على تركها، ودعته إلى الذهاب إلى النبي ﷺ، مؤكدةً له أنه لن يرى منه إلا خيرًا وإحسانًا.
ولمّا قدم عديّ المدينة، لقي النبي ﷺ، فرآه في صورة ليست صورة الملوك، بل في هيئةٍ تتجلى فيها الرحمة والتواضع؛ امرأة عجوز توقفه فيقف طويلًا يقضي حاجتها، ثم يدعوه إلى بيته، فيقدّم له وسادة يجلس عليها، ويجلس هو على الأرض، فوقع ذلك في نفسه موقع اليقين بأن هذا الرجل لا يطلب ملكًا ولا سلطانًا. ثم واجهه النبي ﷺ بصدق، فأخبره أنه يأخذ من قومه ما لا يحلّ له، فاعترف، وعلم أنّ هذا القول ليس قول رجلٍ يدعو إلى دنيا بل قول نبيّ يوحى إليه. ثم بشّره بثلاث بشارات عظيمة: فيض المال حتى لا يجد الرجل من يقبل صدقته، وأمنٌ يعمّ البلاد حتى تسافر المرأة من القادسية إلى المدينة لا تخاف إلا الله، وفتح كنوز كسرى بن هرمز. وكانت هذه الكلمات كافية ليمتلئ قلبه يقينًا، فأسلم على الفور، ثم عاش حتى رأى اثنتين من البشارات تتحقق أمام عينيه، ووقعت الثالثة بعد زمن يسير في عهد عمر بن عبد العزيز رحمه الله.
ولا تقف قصة عديّ عند حدود التاريخ، بل تحمل في طياتها دروسًا عظيمة يحتاجها المسلم في العصر الحاضر، إذ تُظهر أن الهداية قد تأتي بعد طول عناد، وأن القلوب بين أصابع الرحمن، فلا ينبغي اليأس من دعوة أحد مهما ابتعد. كما تكشف أن أعظم وسائل الدعوة حسن الخلق، فقد كان موقف النبي ﷺ مع سفانة أقوى عليهم من ألف حجة، وفي زمان يكثر فيه سوء الفهم عن الإسلام، يكون الخلق الحسن أبلغ من الكلام. وتدلّ القصة على أن التواضع يرفع الإنسان أكثر من السلطان، وأنّ القائد الحقيقي هو الذي يقف للعجوز ويحترم الضعيف، لا الذي يتعالى على الناس. وفيها أن الظلم يُسقط الممالك، كما يسقط احترام الناس لصاحبه، وأن العدل أساس الإصلاح، سواء كان الإنسان مسؤولًا أو عالمًا أو داعية أو رب أسرة. وفيها أيضًا أن المستقبل للإسلام مهما اشتدت الظروف، وأن وعود النبي ﷺ تتحقق رغم بُعد الزمن، وأن الحق لا ينهزم ولو بدا ضعيفًا في لحظة من اللحظات. كما أن في القصة دعوة لكل صاحب منصب أن لا يغترّ بسلطانه، فكل سلطان زائل، ولا يبقى إلا سلطان القيم والحق. وهي رسالة أيضًا أن الرحمة هي أساس التعامل الإنساني، وهي التي تبني الدول وتُصلح المجتمعات.
ومن يتأمل سيرة عديّ رضي الله عنه يجد أنها مرآة للإنسان المعاصر: فكم من الناس اليوم يخافون من الإسلام بسبب تصورات خاطئة، وكم من قلوب تفتحها الرحمة بعد أن تغلقها الشبهات! وكم نحن بحاجة في عصر الفتن والتشويش إلى صدق النبي ﷺ، وتواضعه، وعدله، ورحمته، التي كانت مفتاح هداية رجلٍ مثل عديّ بن حاتم، فصار من سادة المؤمنين بعد أن كان من أعدى الناس لدين الله.
ومن أراد التوسع في ترجمة الصحابي الجليل عديّ رضي الله عنه فليراجع:
1. الإصابة (طبع السعادة 4/228–229)
2. الاستيعاب (2/502–503)
3. أسد الغابة (3/392–394)
4. تهذيب التهذيب (7/166–167)
5. تقريب التهذيب (2/16)
6. تجريد أسماء الصحابة (1/405)
✍🏻 أبو خالد
