استثمر في نفسك اليوم، واجعل التعلم عادة يومية. ابدأ الآن واجعل العلم رفيقك في رحلة النجاح. تابعنا على تيليجرام!

من أين نبدأ؟ حين يصبح مشروع النهضة أكبر من بيتنا


كثيرًا ما نتحدث – نحن العاملين على إعداد مبدعي النهضة – عن تغيير الوجه الحضاري لهذه الأمة، وعن صناعة جيلٍ جديدٍ واعٍ يحمل مشروعًا فكريًا عميقًا يقوم على معادلات مالك بن نبي، وإضاءات جاسم سلطان، وقوانين الحضارة، ومهارات التفكير، والمشاريع التطبيقية.
لكن الحقيقة المؤلمة تظهر حين نلتفت خلفنا، إلى الداخل، إلى أقرب دائرة تأثير: أبناؤنا، أسرنا، أهل بيتنا.
هنا نكتشف الفجوة الكبرى: هؤلاء الذين تحت أيدينا لا يعرفون شيئًا عمّا نتحدّث به، لا عن مالك بن نبي، ولا عن سنن التخلّف، ولا عن قوانين النهضة، ولا عن الجواب على السؤال البسيط: لماذا تخلّفنا؟ وكيف نتقدّم؟
إنها ورطة حضارية بلا مبالغة. فالذي يفقد القدرة على التأثير في أسرته لن ينجح في التأثير على أمّة. والذي لا يستطيع صناعة وعي داخل بيته لن يستطيع صناعة وعي داخل مجتمعه. وهنا يصدق المعنى العميق لمقولة:
«فاقد الشيء لا يعطيه»
ولكن بمعناها الحضاري: من لم يطبّق على نفسه وأهله ما يدعو له، لن يُصدّق حين يدعو الأمة إلى التطبيق.

المعضلة: مشروع كبير بلا جذر صغير

نحن نشتغل على مشاريع استراتيجية:
– تحليل التخلف،
– مسارات النهضة،
– بناء العقل،
– هندسة الأفكار،
– قوانين الحركة الحضارية،
– التربية القيادية،
– الوعي التاريخي والفكري…
ولكننا – في المقابل – نعيش مع شباب وشابات داخل البيت يطرحون أسئلة من نوع آخر:
“شو يعني نهضة؟”
“مين مالك بن نبي؟”
“ليش دايمًا تحكي عن التغيير؟”
“شو دخلنا إحنا في كل هالحكي؟”
وبعضهم أصلاً لا يدري لماذا نقرأ، ولماذا نكتب، ولماذا نشغل أوقاتنا في مشروع فكري يبدو لهم بعيدًا عن واقعهم اليومي في الدراسة، العمل، الحياة، والسوشيال ميديا.
هذا الانفصال هو أول عقبة حقيقية أمام أي مشروع نهضوي.
فالأمة لا تنهض من فوق إلى تحت؛ بل تنهض من الدوائر الصغيرة التي تنفتح وتتوسع تدريجيًا.
وإن لم نُحسن إدارة الدائرة الأقرب، فكل ما بعدها سيكون هشًا وضعيفًا.

الحقيقة الحضارية: النهضة تبدأ من البيت

هذه ليست جملة وعظية، بل قانون من قوانين التاريخ.
مالك بن نبي حين تحدث عن “قابلية الاستعمار” بدأها من النفس قبل المجتمع.
وجاسم سلطان حين وضع “دوائر التأثير” جعل الأسرة هي الدائرة الأولى التي تُصنع فيها القيم والعقل والمهارات.
الخلل إذن ليس في مشروعنا، بل في نقطة الانطلاق.
لقد بدأنا من الوعي العالي وتركنا الوعي البسيط الضروري.
بدأنا من المعادلات بدل أن نبدأ من الحاجات.
بدأنا من الأفكار الكبرى بدل أن نبدأ من الإجابات الصغيرة التي يحتاجها أبناؤنا لبناء هويتهم.
والنتيجة؟
جيلان منفصلان:
جيلٌ يعمل على التغيير، وجيلٌ يعيش بلا رابط معه.
الجواب المركزي: من أين نبدأ؟ نبدأ من أنفسنا ومن أسرنا

1. نبدأ من بناء نموذج سلوكي قبل أن نبني خطابًا فكريًا

أبناؤك لن يتأثروا بك لأنك تحفظ كتب مالك بن نبي، بل لأنهم يرونك:
– تُنظّم وقتك،
– تملك هدفًا واضحًا،
– تتعامل بوعي،
– تتخذ قراراتك بميزان،
– تُظهر مبادئك في سلوكك اليومي.
القدوة هي أول درس نهضوي.

2. نبدأ بتبسيط الفكرة

الوعي لا يُبنى بالمحاضرات، بل بالقصص، والحوارات، والأمثلة.
علّم أبناءك معنى النهضة من خلال:
– قصة حضارية،
– موقف حياتي،
– مثال من القرآن،
– حكاية من السيرة.
اجعل الفكرة قابلة للفهم قبل أن تصبح قابلة للتطبيق.

3. نبدأ بفهم أسئلة الجيل

أبناؤنا لا يعيشون أسئلتنا نحن.
فهم يسألون أسئلة مرتبطة بهويتهم، علاقاتهم، مستقبلهم، الثقة بالنفس، معنى النجاح…
وإن لم نجب نحن عن هذه الأسئلة، سيجيب عنها "تيك توك" و"إنستغرام" و"يوتيوبرز" لا علاقة لهم بالنهضة.

4. نبدأ بحوارات أسبوعية داخل البيت

جلسة واحدة أسبوعيًا – قصيرة غير ثقيلة – تكفي لزرع جذور عميقة.
يُناقش فيها:
– قيمة،
– مهارة،
– فكرة،
– مبدأ،
– قصة،
– حدث.
هذه ليست جلسة تعليم، بل جلسة بناء إنسان.

5. نبدأ بمشاريع صغيرة داخل الأسرة

مشروع قراءة صغير،
أسبوع بلا هواتف في المساء،
عمل تطوعي عائلي،
مشروع ادخار،
نشاط صحي،
تحديات تربوية أو مهارية.
هذه المشاريع هي النسخة المصغرة من مشروع النهضة.

6. نبدأ بإعادة تعريف النجاح لأبنائنا

لا تجعل النجاح محصورًا في الدراسة أو المال.
علمهم النجاح في:
– الأخلاق،
– المسؤولية،
– الانضباط،
– التفكير،
– التوازن النفسي.
حين يفهم الابن معنى النجاح الحقيقي، يصبح مؤهلاً لفهم مشروع النهضة.

الخلاصة

لن تُبنى النهضة في المحاضرات قبل أن تُبنى في البيوت.
ولن تتغير الأمة إن لم تتغير الأسرة.
ولن نتقدم خطوة واحدة إذا بقينا نُعلّم العالم ما لا نطبقه على أبنائنا.
السؤال المركزي “من أين نبدأ؟”
جوابه الحقيقي هو:
نبدأ من أنفسنا، ومن بيوتنا، ثم ننطلق بثقة نحو مشروع الأمة.
فإذا صَلُحت الدائرة الأولى، أمكن لما بعدها أن يمتد ويؤثر ويغيّر.
أما إذا فشلنا في أصغر دائرة، فلن ننجح في أكبر دائرة، مهما كان حجم معرفتنا أو جمال مشاريعنا.



د.سامر الجنيدي_القدس

إرسال تعليق

أووپس!!
يبدو أن هناك خطأ ما في اتصالك بالإنترنت. يرجى الاتصال بالإنترنت وبدء التصفح مرة أخرى.
الموافقة على ملفات تعريف الارتباط
نحن نقدم ملفات تعريف الارتباط على هذا الموقع لتحليل حركة المرور وتذكر تفضيلاتك وتحسين تجربتك.