استثمر في نفسك اليوم، واجعل التعلم عادة يومية. ابدأ الآن واجعل العلم رفيقك في رحلة النجاح. تابعنا على تيليجرام!

بين إحكام الخَلْق وعشوائية الخَرْق: قراءة في منظومة الكون واستحقاق العبودية (الحزب 14 - الثمن 7)


في هذا الثمن من سورة الأنعام، يفتح القرآن أمامنا معرض الكون المهيب؛ من فلق الحبة في ظلمات الأرض، إلى فلق الإصباح في آفاق السماء، مروراً بحركة الأفلاك وتشابك النبات. إنه ليس عرضاً لمخلوقات متناثرة، بل هو كشف لنظام دقيق ومحكم. وفي المقابل، يكشف لنا عن بؤس العقل المشرك الذي يواجه هذا الخَلْق المتقن بخَرْق عشوائي ﴿وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ﴾. هذا المقال يقرأ في المعادلة الصفرية بين منظومة التوحيد وفوضى الشرك، مبيناً أن العبادة هي النتيجة المنطقية الوحيدة لإدراك عظمة الربوبية.

الآية العمود: النتيجة الحتمية.. ذلكم الله فاعبدوه

إن الآية التي تمثل خلاصة هذا العرض الكوني، وتضع التاج على رأس المقطع، هي قوله تعالى: ﴿ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ ۖ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ ۚ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ﴾ (102).

هذه الآية تربط بين الربوبية والخلق، والألوهية والعبادة، برباط السببية.

ويحرر الإمام البيضاوي رحمه الله هذا الربط المنطقي عند قوله تعالى ﴿فَاعْبُدُوهُ﴾ قائلاً: «حكم مسبب عن مضمونها؛ فإن من استجمع هذه الصفات استحق العبادة».

فالعبادة ليست أمراً تعسفياً، بل هي استحقاق. بما أن الله انفرد بالخلق والتقدير (الخلق المحكم)، فهو المنفرد باستحقاق الخضوع. فمن أدرك دقة الفلق في الكون، لزمه التعبد في السلوك.

قانون الاستحقاق: حق الصانع على المصنوع

لماذا العبادة واجبة؟ يجيب شيخ المفسرين الطبري رحمه الله بوضع قاعدة الحق الصناعي في الوجود، فيقول: «فإنه خالق كلّ شيء وبارئه وصانعه، وحقّ على المصنوع أن يفرد صانعه بالعبادة... فذلوا له بالطاعة والعبادة والخدمة».

إنها علاقة وجودية؛ فبما أنك جزء من منظومة الخلق (مصنوع)، فمكانك الطبيعي هو الخضوع للصانع. الخروج عن العبادة هو خروج عن طبيعتك التكوينية، ونشاز في سيمفونية الكون المسبح.

هندسة النظام: كمال الوكالة

الكون لا يعمل بالصدفة، بل يعمل تحت وكالة (إدارة) مباشرة ومستمرة.

ويغوص الشيخ السعدي رحمه الله في عمق معنى ﴿وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ﴾، مبيناً الفارق بين وكالة الخالق ووكالة المخلوق، فيقول: «ووكالته تعالى على الأشياء، ليست من جنس وكالة الخلق... وأما الباري، تبارك وتعالى، فوكالته من نفسه لنفسه، متضمنة لكمال العلم، وحسن التدبير والإحسان فيه... فلا يمكن لأحد أن يستدرك على الله، ولا يرى في خلقه خللا ولا فطورا».

هذا الكمال في الوكالة هو الذي يضمن بقاء الكون وانتظامه. وكما تكفل الله بفلق الحبة لرزق الأبدان، فإنه -كما يضيف السعدي- «توكل ببيان دينه، وحفظه عن المزيلات والمغيرات» لرزق القلوب.

جريمة العبث: حين يتحول الشرك إلى خَرْق

في مقابل هذا الخَلْق المحكم (تقدير العزيز العليم)، يأتي الشرك كخَرْق في جدار العقل والكون ﴿وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾.

التشابه اللفظي بين خلق وخرق يكشف المفارقة: الله يبني وينظم (يخلق)، والمشرك يمزق ويفسد (يخرق). فالشرك ليس وجهة نظر، بل هو محاولة تشويه للمنظومة، وادعاء بلا علم يصادم حقائق الوجود الدامغة.

الخاتمة: العبودية وعيٌ بالنظام

إن الارتقاء من سذاجة الخرق إلى جلال العبودية لا يكون إلا بالتدبر في نظام الخلق. فمن رأى الله في فلق الحبة، وفي دوران الفلك، أدرك أنه أمام رب يستحق نهاية الذل ونهاية الحب، فلا يملك إلا أن يقول: ﴿ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ﴾.


كتب حسان الحميني،
والله الموفق.

إرسال تعليق

أووپس!!
يبدو أن هناك خطأ ما في اتصالك بالإنترنت. يرجى الاتصال بالإنترنت وبدء التصفح مرة أخرى.
الموافقة على ملفات تعريف الارتباط
نحن نقدم ملفات تعريف الارتباط على هذا الموقع لتحليل حركة المرور وتذكر تفضيلاتك وتحسين تجربتك.