مقدمة: مفارقة الحوار - بين القمع والاكتشاف
في المقال السابق، رأينا كيف أن "التعاطف" هو المفتاح لبناء الجسور وتغيير الهدف من "الإقناع" إلى "الفهم". لكن بعد بناء الجسر، كيف نعبره؟ كيف ندير حوارًا بنّاءً ومثمرًا مع شخص نختلف معه في قناعاته وسلوكياته؟ هنا تبرز مفارقة عميقة تكشف جوهر الفرق بين الحوار الحقيقي والحوار الزائف :
في غياب التعاطف، يصبح هدفنا هو الإقناع وتفريغ ما لدينا من معلومات، فتكون "مساحة حديثنا أكبر". نستحوذ على الكلام، ونقدم الأدلة، ونشرح، ونصحح. لكن هذه المحاولة للإقناع غالبًا ما تتحول، دون أن نشعر، إلى "قمع فكري"، حيث نحاول فرض شبكتنا المفاهيمية على الآخر.
أما في حضور التعاطف، فينقلب الأمر تمامًا. يصبح هدفنا هو الفهم والاكتشاف، فتكون "مساحة حديث الآخر أكبر". نتكلم أقل ونستمع أكثر، لأننا نسعى بصدق لاكتشاف عالمه الداخلي.
يهدف هذا المقال إلى استعراض ملامح "هندسة الحوار" الفعال القائم على الاكتشاف، وهو حوار لا يعتمد على إلقاء الأدلة، بل يركز على صناعة الأسئلة الذكية التي تفتح العقول والقلوب، وتفكك القناعات الصلبة، وتخلق مساحات للتفكير المشترك.
استعارة من الكيمياء: تفكيك "صخرة" القناعات
لنتخيل أن الشبكة المفاهيمية الراسخة لدى جارة حليمة هي بمثابة "صخرة" صلبة ومتماسكة. إن محاولة صب "محلول" الأفكار الجديدة على سطح هذه الصخرة الصلبة والمصمتة قد لا يؤدي إلى أي تفاعل يذكر. لكن، كما يعلمنا درس بسيط في كيمياء الصخور، فإن تكسير الصخرة إلى أجزاء أصغر يزيد من "مساحة السطح" المعرضة للتفاعل، مما يجعل "المحلول الكيميائي" أكثر قدرة على التغلغل والتأثير.
هذا بالضبط ما يفعله الحوار القائم على الأسئلة. فبدلًا من مهاجمة "صخرة" موقفها من الحجاب بشكل مباشر، يمكن لحليمة من خلال الأسئلة الذكية أن "تفكك" هذه الصخرة الفكرية إلى مفاهيم جزئية أصغر وأكثر قابلية للنقاش والمعالجة، مما يخلق مساحات أوسع لتفاعل المعاني الهادية.
هندسة الحوار: استراتيجية قائمة على الأسئلة
بناءً على الجسور التي بنتها حليمة من خلال التعاطف والتقدير، يمكنها الآن الانتقال إلى حوار هادئ لا يقوم على إعطاء الأجوبة، بل على طرح الأسئلة المفتوحة التي تستثير التفكر:
1. الانطلاق من المفاهيم المشتركة :
الحوار لا يبدأ من نقطة الخلاف، بل من نقاط الاتفاق التي تم اكتشافها (الأخلاق العالية، محبة الله).
أسئلة استكشافية: "ما شاء الله، أخلاقك العالية تلفت نظري دائمًا. في رأيكِ كمتخصصة، ما هي العلاقة الجوهرية بين الإيمان العميق والأخلاق الظاهرة؟ كيف يغذي أحدهما الآخر؟"
2. تفكيك المفاهيم الحاكمة لدى الجارة (بأسئلة):
لتفكيك مفهوم "الدين جوهر لا مظهر": "أتفق معكِ تمامًا أن جوهر الدين هو الأهم. لكن هل يمكن للجوهر أن يكتمل وينمو بمعزل تام عن المظهر؟ كيف ترين علاقة التكامل بين الظاهر والباطن في الإسلام؟".
لتفكيك مفهوم "الحرية الشخصية": "نحن نعيش في عصر يكثر فيه الحديث عن الحرية. كيف نوازن كمؤمنات بين مفهوم الحرية الشخصية ومفهوم العبودية لله التي هي أسمى أشكال الحرية؟".
لتفكيك مفهوم "الأولويات": "أقدر جدًا اهتمامك بالقضايا الكبرى للأمة. لكن هل ترين أن إصلاح الفرد لنفسه والتزامه بالتفاصيل هو جزء من إصلاح الأمة أم هو منفصل عنه؟".
3. استثمار تخصصها الشرعي (بأسئلة):
أسئلة تطلب العمق: "كونك دارسة للشريعة، لابد أنكِ تأملتِ كثيرًا في حكمة التشريعات المتعلقة بالمرأة في الإسلام. ما هي أعمق حكمة ترينها في التشريعات الخاصة بلباس المرأة وزينتها؟ أنا أسأل لأستفيد من نظرتك المتخصصة."
أسئلة حول التوازن العقدي: (لمعالجة فهم غير متوازن للرحمة) "كثيرًا ما أتدبر كيف يجمع القرآن بين صفات رحمة الله الواسعة وصفات عدله وعقابه. كيف يمكننا أن نعيش بهذا التوازن الدقيق بين الرجاء العظيم والخوف المحفز؟".
أهداف الحوار القائم على الأسئلة:
ليس الإفحام، بل الإفهام: الهدف ليس إحراج الجارة، بل مساعدتها على فهم شبكتها المفاهيمية بشكل أعمق ورؤية أي تناقضات قد تكون موجودة فيها.
جعلها هي من تكتشف: طرح الأسئلة يجعلها هي من تفكر وتستنتج، وهذا يجعل أي قناعة جديدة تصل إليها أكثر رسوخًا لأنها نابعة من داخلها.
الحفاظ على العلاقة: هذا الأسلوب يحافظ على الاحترام والود، ويحول الموقف من "مواجهة" إلى "تدارس وتفكر مشترك".
تشخيص أعمق لحليمة: من خلال إجابات جارتها، ستحصل حليمة على تشخيص أدق لشبكتها المفاهيمية الحقيقية، مما يمكنها من تكييف حواراتها المستقبلية.
خاتمة: الداعية كـ "مُحفّز للتفكر"
إن "هندسة الحوار" الفعال تنقل الداعية من دور "المُلقّن" الذي يصب المعلومات، إلى دور "المُحفّز للتفكر" الذي يصنع الأسئلة ويخلق البيئة الآمنة للتأمل والمراجعة. إنها تتطلب صبرًا، وحكمة، ومهارة في الاستماع تفوق مهارة الكلام. بعد أن تبني حليمة الجسور وتستخدم الأسئلة لتفكيك "صخرة" القناعات، يأتي دور التحدي الأكبر: ماذا لو كانت هذه الصخرة أشد صلابة مما نتخيل؟ هذا ما سنتناوله في المقال التالي.
كتب حسان الحميني،
والله الموفق.
