مقدمة: تحدي العقول المتحجرة
قد يقوم الداعية بكل الخطوات الصحيحة: يبني جسور الثقة بالتعاطف، ويدير حوارًا ذكيًا قائمًا على الأسئلة، ويخلق بيئة آمنة للتفكر. لكنه قد يصطدم في النهاية بجدار صلب من القناعات الجامدة والمفاهيم التي تبدو غير قابلة للتغيير. هنا نواجه تحديًا من نوع خاص، وهو ما يمكن استلهامه من ملاحظة عميقة: "الخطير أن يلمس [الجمود والخوف] مفاهيم الإنسان، فتتكلس وتتحجر، فلا تقوى على التفاعل مع الوجود حولها، ولا على الاستجابة للتحديات."
هذا المقال يتناول هذا التحدي الأكبر: ماذا لو كانت المشكلة الحقيقية لدى جارة حليمة هي "تكلس" في شبكتها المفاهيمية؟ وكيف يمكن التعامل مع هذه "الصخرة" الفكرية بحكمة وصبر؟
تشخيص "التكلس المفاهيمي" كفرضية:
"التكلس المفاهيمي" هو حالة من الجمود والصلابة تصيب الأفكار فتفقد مرونتها وحيويتها. كيف يمكن أن يحدث هذا لجارة حليمة رغم علمها الشرعي؟
تكلس في التطبيق: قد تكون معرفتها بمفهوم "الحجاب" نظرية، لكن فهمها لكيفية تطبيقه في العصر الحديث قد يكون متحجرًا وجامدًا، مرتبطًا بصور نمطية سلبية (التخلف، العزلة...) ترفض مراجعتها.
تكلس في المفاهيم الحاكمة: قد يكون مفهومها عن "الدين جوهر لا مظهر" قد تحجر وتحول إلى عقيدة جامدة وغير قابلة للنقاش أو الموازنة مع مفهوم "التكامل بين الظاهر والباطن".
تكلس دفاعي: نتيجة لتجربة وجدانية سلبية سابقة، قد تكون قناعاتها قد تحجرت كآلية دفاعية لحماية نفسها من الألم، وأصبحت غير قابلة للاستماع لأي رأي مخالف.
آثار هذا التكلس:
عدم القدرة على التفاعل مع الوجود: قد تكون غير قادرة على التفاعل الإيجابي مع النماذج الحية للمحجبات الناجحات، لأن مفهومها المتحجر يمنعها من رؤيتهن بشكل صحيح.
عدم القدرة على الاستجابة للتحديات: تكون عاجزة عن الاستجابة لتحدي التوفيق بين علمها الشرعي وواقعها العملي بطريقة متوازنة، فتختار الحل الأسهل وهو إهمال جانب على حساب آخر.
استراتيجيات مقترحة للتعامل مع "التكلس المفاهيمي":
التعامل مع العقول المتكلسة يتطلب صبرًا استثنائيًا واستراتيجيات طويلة النفس تهدف إلى "تليين الصخرة" لا تحطيمها:
استراتيجية "التندية" : الاستمرار في بناء العلاقة الإنسانية الدافئة (بالصبر، وحسن الجوار، والقدوة الحسنة) هو بمثابة "ماء" يبلل الصخرة باستمرار ويجعلها أكثر قابلية للتأثر على المدى الطويل.
استراتيجية "إحداث الشقوق الصغيرة" : مواصلة طرح الأسئلة الذكية والمحيرة (كما في المقال السابق) التي لا تهاجم الصخرة، بل تبحث عن شقوق منطقية أو وجدانية صغيرة فيها وتوسعها بلطف وهدوء.
استراتيجية "تقديم نماذج حية": تعريفها، بشكل غير مباشر وعفوي، على نماذج حقيقية من المحجبات يكسرن الصورة النمطية المتحجرة لديها (ناجحات في حياتهن المهنية، مثقفات، أنيقات، سعيدات...).
استراتيجية "تغيير البيئة المحيطة": أحيانًا، التغيير لا يأتي مباشرة، بل من خلال تغيير البيئة الفكرية والاجتماعية التي تحيط بالشخص. قد يكون إدخالها في صحبة صالحة ومتوازنة هو العامل الأكثر تأثيرًا.
الدعاء: كسلاح أخير وأقوى لتليين القلوب المتحجرة وتفكيك العقول المتكلسة.
خاتمة: الصبر على "كيمياء التغيير"
إن التعامل مع المفاهيم المتكلسة يشبه التفاعلات الكيميائية البطيئة جدًا. إنه يتطلب صبرًا وحكمة وفهمًا عميقًا لطبيعة "المادة" التي نتعامل معها. دور الداعية هنا هو توفير الظروف المناسبة للتفاعل، ثم الصبر وانتظار فضل الله في إحداث التغيير. فكما أن الماء يفتت الصخر على مدى الأزمان، فإن الصدق والصبر والحكمة يمكن أن يلينوا أصلب القناعات بإذن الله.
كتب حسان الحميني،
والله الموفق.
