استثمر في نفسك اليوم، واجعل التعلم عادة يومية. ابدأ الآن واجعل العلم رفيقك في رحلة النجاح. تابعنا على تيليجرام!

بين التصوّر والنهضة — لماذا لا ينهض الإنسان بمجرد امتلاكه لفكرة عن الحياة والكون والإنسان؟


يشيع الاعتقاد بأن نهضة الإنسان تبدأ عندما يمتلك تصورًا صحيحًا عن الحياة والكون والإنسان، وأن فهم العلاقة بين هذه الأبعاد الثلاثة وما قبل الحياة الدنيا وما بعدها كفيل بأن ينقل الإنسان من التخبط إلى الوعي، ومن العشوائية إلى التكليف، ومن الضياع إلى الرسالة. ورغم أن هذا الكلام يحمل قدرًا كبيرًا من الصحة، إلا أن الواقع التاريخي والإنساني يثبت أنه غير كافٍ وحده لصناعة النهضة.
فالإنسان قد يمتلك أرقى التصورات العقدية، لكنه يبقى عاجزًا عن تحويلها إلى حركة في الواقع، فيغدو الفكر مجرد حالة روحية لا أثر لها، أو معرفة معلّقة لا تنتج عمرانًا ولا إنجازًا.
هذه المقالة تحاول أن تشرح الأساس النظري للفكرة، ثم تقدّم نقدًا منهجيًا يوضح أين يقع الخلل حين نعوّل على “التصوّرات” وحدها دون بناء أدوات النهضة.

أولًا: كيف يشكّل التصوّر رؤية الإنسان لنفسه وللوجود؟

التصورات الكبرى—عن الحياة والإنسان والكون—هي الإطار الفكري الذي يحدد وجهة الإنسان. فهي تجيب عن الأسئلة الوجودية الكبرى:
  • * من أين جئت؟
  • * لماذا أنا هنا؟
  • * إلى أين أذهب؟
  • * ما دوري؟
  • * ما قيمتي ومسؤوليتي؟
فالإنسان الذي يؤمن بأنه خُلِق لهدف، وأنه مسؤول، وأن حياته ليست عبثًا، يبني نظامًا ذهنيًا مختلفًا تمامًا عن إنسان يرى الحياة مادةً فقط أو صدفةً عمياء. ومن هنا، تصبح العقيدة مصدرًا للمعنى، والمعنى مصدرًا للطاقة النفسية التي تدفع الإنسان للعمل.
وكل الحضارات التي نشأت عبر التاريخ—سواء كانت إسلامية أو غربية أو شرقية—اعتمدت في بداياتها على منظومة تصور تحدد للإنسان مكانه في الوجود ومرجعيته وقيمة حياته.

ثانيًا: لماذا لا تكفي التصوّرات وحدها لصناعة النهضة؟

على الرغم من أهمية التصورات، إلا أنها لا تكفي وحدها؛ لأن النهضة ليست فكرة، بل منظومة. وهنا أهم مواطن الخلل التي وقع فيها كثير من النهضويين:

1. التصور بلا أدوات… روح بلا جسد

قد يمتلك الفرد تصورًا صحيحًا، لكنه يفتقر إلى:
  • * مهارات التفكير
  • * أدوات التحليل
  • * الانضباط
  • * التخطيط
  • * إدارة الوقت
  • * مهارات الحياة
  • * فهم الواقع
  • * القدرة على تحويل الأهداف إلى مشاريع
فتبقى العقيدة “روحًا” عالية، ولكن بلا جهاز عضليّ يدفعها للعمل.
وهذا هو أكبر أسباب الفجوة بين ما نؤمن به وما نعيشه.

2. معرفة الحقائق الكبرى لا تعني معرفة الواقع

قد يعرف الإنسان أن الحياة دار ابتلاء، وأنه مسؤول ومحاسب، لكنه لا يعرف:
  • * قوانين الاجتماع
  • * ديناميات القوة
  • * طبيعة بناء المؤسسات
  • * أسس الاقتصاد
  • * مهارات العلم والعمل
  • * قوانين السببية
فيظل يعيش في عالم “التصورات الجميلة” دون أن يمشي خطوة واحدة في عالم “الواقع الصلب”.
وهنا يظهر أثر غلبة المنهج الاستنباطي على الاستقرائي:
نستدل بأدلة عامة على واقع معقّد، فننتج حلولًا غير فعّالة.

3. التصوّر بلا مشروع يؤدي إلى العجز لا النهضة

قد يعرف الشخص معنى الحياة، لكنه لا يحوّل هذا المعنى إلى:
  • * خطة شهرية
  • * مهارة يومية
  • * عادة متكررة
  • * مشروع
  • * أثر اجتماعي
  • * قيمة مضافة
فتتحول المعرفة إلى ثقل نفسي لا إلى دافع نهضوي.
ويعيش الإنسان في صراع مستمر بين “ما يعرف أنه يجب أن يكون” وبين “ما هو قادر على فعله”.

4. ضعف البيئة يقتل أقوى التصوّرات

الفرد لا ينهض وحده.
حتى أعظم الفلاسفة والمصلحين احتاجوا إلى:
  • * بيئة معرفية
  • * بيئة قيمية
  • * مجتمع يقدّر العمل
  • * شبكة دعم
  • * مؤسسات
  • * قيادة
  • * روح جماعية
ولذلك قال ابن خلدون: الإنسان مدني بالطبع.
فإذا غابت البيئة الداعمة، طغت البيئة الهادمة، وماتت النهضة قبل أن تولد.

5. الانشغال بالماورائيات على حساب قوانين الدنيا

في المجتمعات المتخلفة تتحول العقيدة إلى:
  • * مجال للوعظ
  • * خطاب عاطفي
  • * هروب من مواجهة الواقع
  • * عزاء نفس
  • * وليس مشروع نهضة
فيكثر الكلام عن الآخرة دون السعي لبناء الدنيا، رغم أن القرآن يربط بينهما دائمًا:
"وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا"

6. التصور الصحيح قد يصبح “مسكّنًا” إذا غابت الحركة

حين لا تتحول الفكرة إلى سلوك، تصبح مثل الدواء الذي وضع قرب المريض دون أن يشربه، فيشعر براحة نفسية مؤقتة لكنه لا يشفى.
وكذلك التصوّر الصحيح:
قد يمنح الطمأنينة، لكنه لا يصنع مشروعًا ولا يغيّر الواقع.

ثالثًا: نحو رؤية متوازنة — كيف تتحول التصوّرات إلى نهضة؟

النهضة تتكوّن عبر ثلاث طبقات متكاملة:

1. التصور: (لماذا؟ وما الهدف؟)

* معنى الحياة
* دور الإنسان
* العلاقة بالكون
* العلاقة بالآخرة
* المرجعية والقيم
(هذه طبقة الرسالة)

2. المنهج: (كيف نفكر؟ وكيف نفهم الواقع؟)

* الاستقراء
* التحليل
* أدوات التفكير
* قراءة التاريخ
* فهم قوانين الاجتماع
* منهجية التخطيط
(هذه طبقة العقل)

3. الأدوات: (كيف نعمل؟ وما المهارات؟)

* مهارات الإنجاز
* مهارات المشاريع
* العادات اليومية
* الانضباط
* إدارة النفس
* بناء بيئة داعمة
(هذه طبقة الحركة)
وعندما تتكامل هذه الطبقات الثلاث، يتحول الإنسان من:
صاحب فكرة → إلى صاحب مشروع → إلى صانع أثر.

خاتمة

امتلاك تصور صحيح عن الحياة والكون والإنسان شرط للنهضة، ولكنه شرط غير كافٍ.
فالنهضة لا تُصنع بالفكر وحده، ولا بالمهارة وحدها، ولا بالحماسة وحدها، بل بتكامُل:
الفكرة + المنهج + المهارة + البيئة + المشروع.
عندها فقط تنتقل الأمة من “الإيمان الجميل” إلى “العمران الفعّال”، ويتحوّل التصور من معرفة في الرأس إلى حركة في التاريخ.


د.سامر الجنيدي_القدس

إرسال تعليق

أووپس!!
يبدو أن هناك خطأ ما في اتصالك بالإنترنت. يرجى الاتصال بالإنترنت وبدء التصفح مرة أخرى.
الموافقة على ملفات تعريف الارتباط
نحن نقدم ملفات تعريف الارتباط على هذا الموقع لتحليل حركة المرور وتذكر تفضيلاتك وتحسين تجربتك.