في هذا المقطع الجوهري من سورة الأنعام، يعيد القرآن تعريف الحياة؛ فهي ليست مجرد نبض بيولوجي، بل هي نور يمشي به الإنسان في الناس ﴿أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا﴾. تأسيا برسولنا صلى الله عليه وسلم قرآنا يمشي على الأرض، وهذا النور يحتاج إلى مسار آمن ليعمل فيه. هذا المقال يرسم خريطة الصراط المستقيم، مبيناً أن الاستقامة ليست مجرد معرفة ذهنية بمعالم الطريق، بل هي حركة فعلية تبدأ بقرار الترك ﴿وَذَرُوا﴾، وتنتهى باجتثاث جذور الإثم، لتتحول المعرفة إلى سلوك يمشي على الأرض.
الآية العمود: الخارطة الكلية.. هذا صراط ربك
إن الآية التي تضبط البوصلة وتجمع شتات المقطع هي قوله تعالى: ﴿وَهَٰذَا صِرَٰطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماٗۖ قَدْ فَصَّلْنَا اَ۬لَايَٰتِ لِقَوْمٖ يَذَّكَّرُونَۖ﴾ (127)
يضع الطبري رحمه الله هذا الصراط في إطاره العملي الدقيق، فيقول:
«يقول: طريق ربك ودينه الذي ارتضاه لنفسه ديناً وجعله مستقيماً لا اعوجاج فيه، فاثبت عليه وحرّم ما حرمته عليك وأحلل ما أحللته لك».
فالاستقامة هي الخطة التنفيذية للحياة؛ إنها انضباط دقيق بمنظومة الحلال والحرام، وليست مجرد مشاعر روحانية هائمة.
الحركة الفاعلة: الاستقامة سير وليست معرفة
ولكن، هل يكفي أن تعرف الطريق لتكون مستقيماً؟ هنا يتدخل الأمر الإلهي الحازم في الآية (121): ﴿وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ﴾.
الفعل ذَرُوا فعل حركي بامتياز؛ يعني: اترك، تخلَّ، وتحرك. إنه ينقل المسلم من دائرة التنظير إلى دائرة الفعل.
فالاستقامة ليست أن تملك خريطة الطريق في جيبك، بل أن تمشي عليه بقدميك.
وهذا السير يتطلب تخففاً من الأحمال؛ بترك ظاهر الإثم (سلوك الجوارح)، واجتثاث باطنه (رغبات القلب واستحلال الحرام). فمن نظف ظاهره وبقي في قلبه جذر للمعصية، كان سيره معوجاً، وخطواته مثقلة، ومهدداً بالسقوط عند أول عقبة.
فيزياء الطريق: يسر الاستقامة وضيق الضلال
يقارن ابن عاشور رحمه الله بين حال السالك للصراط وحال الضال (الذي يصعد في السماء) بلمحة جمالية، فيقول:
«لأنّ هذا تمثيل لحال هدي القرآن بالصّراط المستقيم الّذي لا يجهد متّبعه، فهذا ضدّ لحال التّمثيل في قوله: {كأنَّما يصّعَّد في السَّماء}».
فالحركة على الصراط موافقة للفطرة، مريحة للنفس، بينما الضلال جهد شاق واختناق ضد جاذبية الحق.
ويضيف البقاعي رحمه الله بعداً فيزيائياً آخر، واصفاً الضلال (الرجس) بأنه الاضطراب، بينما الصراط هو: «مستقيماً: أي لا عوج فيه أصلاً... أبعد شيء عن الاضطراب». فالصراط هو خط الاستقرار الوحيد في عالم يموج بالاضطرابات.
علامات الطريق: الآيات كـ إشارات مرور
كيف نضمن سلامة السير؟ يلفت ابن عاشور أنظارنا إلى سر ختم الآية بـ ﴿فَصَّلْنَا الْآيَاتِ﴾ قائلاً:
«ومن رشاقة لفظ {الآيات} هنا أن فيه تورية بآيات الطريق التي يهتدي بها السائر».
فالقرآن نصب لنا علامات إرشادية (الآيات المفصلة) على جنبات الطريق. والمطلوب هو عقل يقظ (قوم يذكرون) يقرأ العلامة، ثم يترجمها فوراً إلى قرار حركي بالتزام المسار.
الخاتمة: يقظة السائر
إن السير على هذا الصراط يتطلب تركيزاً تاماً وحذراً من الالتفات. ويحذر القشيري رحمه الله من خطورة الغفلة قائلاً:
«فإِن زاغَ صاحبُ الاستقامة لحظةً، والتفت يمنةً أو يسرةً، سقط سقوطاً لا ينتعش».
فالاستقامة حركة دائبة نحو الهدف، لا تتوقف إلا بالوصول.
كتب حسان الحميني،
والله الموفق.
