استثمر في نفسك اليوم، واجعل التعلم عادة يومية. ابدأ الآن واجعل العلم رفيقك في رحلة النجاح. تابعنا على تيليجرام!

هندسة النهوض: جدلية البصيرة والتوازن في بناء المجموعات


المقدمة: معادلة الحياة
إن حياة أي مجموعة ناهضة ليست مجرد صدفة سعيدة، بل هي نتاج معادلة دقيقة ومعقدة بإذن الله. ولكي يكتب لهذا الكيان البقاء والنمو، فإنه يحتاج إلى ركيزتين وجوديتين؛ الأولى تتعلق بصناعة المحتوى الداخلي (الإبداع)، والثانية تتعلق بإدارة الطاقة (الحركة صوب المستقبل). وكل ركيزة منهما تفتقر إلى أدوات تشغيل خاصة لا تعمل إلا بها.

أولاً: إدارة التخلية والتحلية (ومحركا الاستبصار والمبادرة)
إن عملية "التخلية" (تنقية المجموعة من الشوائب) و"التحلية" (تزويدها بالفضائل والمهارات) هي بوابة ميلاد الإبداع. لكن هذه العملية لا تحدث تلقائياً، بل تحتاج إلى شرطين سابقين :

1.  قوة الاستبصار (عينُ التشخيص):
    لا يمكننا تخلية ما لا نراه، ولا تحلية ما لا ندرك حاجتنا إليه. الاستبصار هو تلك النظرة الثاقبة التي تمكن القادة من رؤية "الأعشاب الضارة" (السلبيات الخفية) قبل أن تستفحل، ورؤية "البذور الصالحة" (الفرص الكامنة) لغرسها. بدون استبصار، ستكون التخلية عشوائية (قد نقتلع زهوراً)، والتحلية تقليدية (نكرر ما يفعله الآخرون بلا إبداع).
2.  قوة المبادرة (يدُ التغيير):
    الرؤية وحدها لا تكفي؛ فكم من مجموعة أدركت أخطاءها لكنها افتقرت إلى الجرأة لإصلاحها. المبادرة هي القوة التنفيذية التي تحول "الاستبصار" إلى واقع؛ هي الشجاعة في بتر العادات السيئة (تخلية) والمسارعة في تبني الجديد النافع (تحلية). إن اجتماع العين المبصرة مع اليد المبادرة هو الرحم الذي يولد منه الإبداع الحقيقي.

ثانياً: الجمع بين قوتي التماسك والدفع (وضابطا المرونة والتوازن)
في الركن الثاني، تواجه المجموعة تحدي الجمع بين "قوة التماسك" التي تحفظ لحمتها الداخلية، و"قوة الدفع" التي تضمن حركتها وإنجازها. ولأن الجمع بين السكون والحركة يبدو متناقضاً، فإنه يحتاج إلى إدارة عالية تتمثل في:

1.  المرونة (امتصاص الصدمات):
    كلما زادت سرعة المجموعة (قوة الدفع)، زاد الضغط على روابطها الداخلية. هنا تأتي المرونة لتلعب دور "المفاصل" التي تسمح للجسد بالحركة دون أن تتكسر العظام. المرونة تعني أن تكون أنظمة المجموعة وقوانينها ولحمتها قابلة للتكيف مع المتغيرات، وتستوعب سرعة الحركة دون أن تتمزق الروابط الاجتماعية. الجمود مع الحركة يولد الكسر، والمرونة مع الحركة تولد الانسيابية.
2.  التوازن (بوصلة الاستمرار) :
    هو فن ضبط الجرعات. التوازن هو الحكمة التي تمنع "قوة الدفع" من التحول إلى تهور يُفقد المجموعة هويتها، وتمنع "قوة التماسك" من التحول إلى تقوقع يخنق طموحها. القائد المتوازن هو الذي يعرف متى يضغط على دواسة الوقود (للدفع) ومتى يضغط على المكابح (لتعزيز التماسك)، محافظاً على المجموعة في مسار مستقيم لا إفراط فيه ولا تفريط.

الخاتمة: الشخصية المتكاملة للمجموعة
بناءً على ما سبق، فإن المجموعة الناهضة هي كائن حي، لا يمكن أن يبدع بجسد متفكك، بل أن :
*   يمتلك عيناً (استبصار) ترى مواطن الخلل والجمال.
*   ويمتلك يداً (مبادرة) لا تتردد في التنظيف والتزيين.
*   ويمتلك جسداً (مرونة) يتحرك بخفة دون أن يتمزق.
*   ويمتلك عقلاً (توازن) يضبط إيقاع المسير بين الثبات والانطلاق.

بهذه الأركان الأربعة، تتحول المجموعة من مجرد تجمع بشري عابر، إلى مشروع حضاري راسخ ومتجدد، فكما يقول ابن نبي رحمه ما معناه أن المجتمع المتفكك لا قدرة له على الإنجاز.

كتب حسان الحميني،
والله الموفق.

إرسال تعليق

أووپس!!
يبدو أن هناك خطأ ما في اتصالك بالإنترنت. يرجى الاتصال بالإنترنت وبدء التصفح مرة أخرى.
الموافقة على ملفات تعريف الارتباط
نحن نقدم ملفات تعريف الارتباط على هذا الموقع لتحليل حركة المرور وتذكر تفضيلاتك وتحسين تجربتك.