استثمر في نفسك اليوم، واجعل التعلم عادة يومية. ابدأ الآن واجعل العلم رفيقك في رحلة النجاح. تابعنا على تيليجرام!

أقوى الرجال وأصبر الناس: إعادة اكتشاف لحظة القوة في ضوء العلم الحديث


* ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب.
* إنما الصبر عند الصدمة الأولى.

كلمات نبوية شريفة، من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم. نحفظها عن ظهر قلب، نرددها في مجالسنا، ونستشهد بها كمسلّمات أخلاقية سامية. لكن، هل توقفنا يوماً لنسبر غورها الإجرائي الدقيق؟ هل سألنا أنفسنا: ماذا تعني عند الصدمة الأولى، في تلك الأجزاء الخاطفة من الثانية التي يفور فيها الدم في العروق؟ وما هي الآلية الفعلية التي تحدث في الدماغ والجهاز العصبي حين يملك إنسان نفسه في ذروة الغضب؟

إننا نتعامل مع هذه الأحاديث ككنوز مألوفة، حتى كدنا من فرط الألفة أن نهجر حقائقها العميقة. قد نظن أن الصبر فضيلة سلبية، وأن ملك النفس مجرد كبت للمشاعر. في هذا المقال، سندعوك لرحلة نعيد فيها اكتشاف هذه الكلمات النبوية، لا كوصايا أخلاقية فحسب، بل كوصف دقيق لآلية نفسية-عصبية هي مفتاح حريتنا وقوتنا الحقيقية. سنستعين بخريطة من الفكر القيادي، وتشريح من علم الأعصاب، لنرى كيف يمكن لهذه البصيرة أن تحررنا من سجن ردود أفعالنا، وتجعلنا بحق أقوى الناس.

تشريح الصدمة الأولى: ما الذي يحدث حقاً في دماغنا؟

لفهم عظمة التحدي الذي يطرحه قول النبي صلى الله عليه وسلم عند الصدمة الأولى، دعنا نرتدي معطف المختبر وننظر إلى ما يحدث في أدمغتنا في تلك اللحظة. يشرح لنا عالم الأعصاب الشهير أنطونيو داماسيو أن تجربتنا تتكون من طبقتين متمايزتين. الأولى هي العاطفة، وهي برنامج جسدي آلي وسريع يحدث كرد فعل لمثير خارجي نعمة من الله لحمايتنا؛ تسارع في نبض القلب، إفراز للأدرينالين، تشنج للعضلات. كل هذا يحدث قبل أن نعي ما يحدث. ثم تأتي الطبقة الثانية، وهي الشعور، وهي قراءة دماغنا الواعية لهذه التغيرات الجسدية.

الصدمة الأولى هي لحظة الانفجار العاطفي الجسدي، اللحظة التي تسبق حتى تكون الشعور الواعي بالكامل. في هذه اللحظة، يقول لنا داماسيو، تحدث سطوة للعاطفة تحاول إغلاق أي مساحة للتفكير المنطقي. إنها آلية بقاء بدائية مصممة لجعلنا نتصرف بأسرع ما يمكن (رد فعل) دون تفكير.

وهنا ندرك عظمة المعنى النبوي: الصبر الحقيقي ليس حالة هدوء تأتي بعد انتهاء العاصفة، بل هو عملية مقاومة نشطة لهذا البرنامج البيولوجي الجارف *في ذروة انطلاقه*. إنه قرار واعٍ بالتشبث بالوعي في اللحظة التي يسعى فيها الجسد لاختطافه. فكيف يمكن تحقيق هذه المقاومة؟ وكيف ننتقل من كوننا أسرى لهذا البرنامج البيولوجي إلى مهندسين له؟

النقلة المعرفية: صناعة المساحة التي تكمن فيها حريتنا

إن الانتقال من رد الفعل الآلي إلى الفعل الواعي ليس مجرد قرار لحظي، بل هو ثمرة عملية نضج مستمرة أسماها داماسيو النقلة المعرفية. هذه النقلة هي جوهر ما يفصل بين الإنسان الناضج والآخر الذي لا يزال أسيراً لتقلباته. إنها الانتقال من حالة الشعور يمتلكني إلى حالة أنا أمتلك شعوري وأستخدمه كبيانات.

فالشخص غير الناضج، عندما يصله الشعور بالغضب، يندمج معه تماماً ويتحول إلى كتلة من الغضب المتجسد تتصرف بشكل تلقائي. أما الشخص الذي أنجز هذه النقلة المعرفية، فإنه يستقبل شعور الغضب كإشارة ضوئية على لوحة قيادة سيارته؛ إنها معلومة هامة تخبره بوجود خطر أو مشكلة، لكنه هو من يظل ممسكاً بالمقود ويقرر كيفية المناورة. هذه القدرة على تحويل الشعور من قائد إلى مرشد هي أساس القوة الحقيقية. وهنا، يقدم لنا خبراء الفعالية القيادية، وفي مقدمتهم ستيفن كوفي، الخريطة العملية لتفعيل هذه النقلة، من خلال مبدأ المساحة:

> بين المثير والاستجابة توجد مساحة. في تلك المساحة تكمن حريتنا وقدرتنا على اختيار استجابتنا.

ملك النفس هو الاسم النبوي الدقيق لهذا الفعل الواعي. أن تملك نفسك يعني أنك في تلك اللحظة الحرجة، تفعّل هذه النقلة المعرفية، فتمنع الاندفاع الآلي، وتخلق فاصلاً زمنياً، ولو كان جزءاً من الثانية، تقف فيه لتختار. قوّتك الحقيقية ليست في عضلاتك التي تقمع بها الآخرين، بل في قوة وعيك الذي تقمع به رد فعلك المتسرع. هذه المساحة هي ميدان جهادك الأكبر، وفيها تكمن حريتك. ولكن، بمجرد أن تنجح في الوقوف في هذه المساحة، يبرز السؤال الأهم: كيف تختار؟ وما هي البوصلة التي توجه قرارك؟

ملء المساحة: من ملك النفس إلى الفعل الائتماني

إن الوقوف في المساحة بين المثير والاستجابة ليس غاية في ذاته. فالحرية الفارغة قد تتحول إلى حيرة أو عبث. أن تملك نفسك ليس مجرد كبت سلبي للغضب، بل هو استمساك واعٍ بالطاقة الهائلة لهذا الشعور لإعادة توجيهها. وهنا، يأتي دور البوصلة الأخلاقية التي يقدمها لنا الفكر الإسلامي المعاصر في مفهوم الائتمان عند الفيلسوف طه عبد الرحمن.

فعل ملك النفس هو الوسيلة، أما الغاية فهي تحقيق مقتضيات الأمانة التي استؤمنا عليها كبشر. عندما تختار في تلك المساحة، فإن بوصلتك لا ينبغي أن تكون كيف أنتقم لنفسي؟ أو حتى كيف أظهر بمظهر الحليم؟، بل يجب أن تكون: ما هو *الفعل* الذي يحقق العدل والرحمة والصدق في هذا الموقف؟ ما هو التصرف الذي يفي بالأمانة التي أحملها؟.

بهذا المنظور، يتحول الغضب من طاقة مدمرة إلى طاقة يمكن تطويعها. فالطاقة التي كنت ستستخدمها في الصراخ، يمكنك الآن، بفضل ملك النفس، أن توجهها إلى حوار حازم وهادئ يضع الأمور في نصابها. والطاقة التي كنت ستفرغها في رد الإساءة، يمكنك أن توجهها إلى فعل يتجاوز الموقف ويصلح ما هو أهم. ملك النفس عند الغضب ليس إطفاءً للنار، بل هو هندسة واعية تحولها من حريق يأكل الأخضر واليابس إلى وقود يدفعك نحو الفعل الأصلح والأكثر أمانة.

من ترديد الحديث إلى معايشته

لقد بدأنا رحلتنا بحديثين شريفين قد يبدوان للوهلة الأولى مجرد مواعظ أخلاقية. والآن، نرى كيف أنهما في الحقيقة وصف دقيق وعميق لآلية نفسية-عصبية معقدة، هي جوهر القوة والحرية الإنسانية. رأينا كيف أن علم الأعصاب (مع داماسيو) شرح لنا شدة المعركة عند الصدمة الأولى، وكيف أن الفكر القيادي المعاصر (مع كوفي) قدم لنا خريطة المساحة التي بها نملك أنفسنا، وكيف أن الفلسفة الإيمانية (مع طه عبد الرحمن) أعطتنا بوصلة الأمانة لنوجه بها خياراتنا في تلك المساحة.

إن العلم الحديث لم يأتِ بمبدأ جديد، بل قدم لنا لغة وأدوات جديدة تساعدنا على فهم عمق الهدي النبوي الذي بين أيدينا. لقد حان الوقت لنحول هذه الأحاديث من مجرد مفاهيم نظرية نرددها، إلى دليل تشغيل يومي نعيشه.

وهنا بالضبط، في القدرة على إنجاز هذه النقلة المعرفية وتوسيع هذه المساحة وائتمانها، يكمن أحد أعمق أسرار التفاوت في النضج والقوة بين البشر. فالإنسان الذي يترك ردود أفعاله تقوده يظل طفلاً من الناحية النفسية، مهما تقدم به العمر. أما الإنسان الذي يتعلم هندسة هذه اللحظة عبر تراكم الخبرات والنوايا الصادقة، فهو الذي يرتقي سلم النضج والقوة الحقيقية، ويصبح فاعلاً في حياته لا مجرد مفعول به.

التحدي العملي لك ولي الآن، هو أن نجعل من حياتنا اليومية ميداناً لهذا التدريب. في المرة القادمة التي تواجه فيها صدمة أو موقفاً يثير غضبك، حاول أن تلتقط تلك اللحظة الخاطفة. لا تنظر إليها كتهديد، بل كفرصة ثمينة لتمرين عضلة الصبر، ولممارسة قوتك الحقيقية في ملك زمام نفسك. فهندسة تلك اللحظة، هي في الحقيقة هندسة لحياتك كلها.

----

تذييل تعريفي:

*   أنطونيو داماسيو: عالم أعصاب وطبيب برتغالي-أمريكي، وأستاذ في جامعة جنوب كاليفورنيا. يُعتبر من أبرز الباحثين في العالم في مجال الأسس العصبية للعواطف والوعي. من أشهر كتبه خطأ ديكارت و الشعور بما يحدث.

*   ستيفن آر. كوفي (1932-2012): مؤلف ومستشار إداري ورجل أعمال أمريكي. اشتهر عالمياً بكتابه العادات السبع للناس الأكثر فعالية الذي يُعد من أكثر كتب التنمية والفعالية القيادية تأثيراً في العالم.
*   طه عبد الرحمن: فيلسوف ومفكر مغربي، يُعتبر من أبرز الفلاسفة والمناطقة في العالم الإسلامي في العصر الحديث. يُعرف بمشروعه الفكري الذي يهدف إلى تأسيس حداثة إسلامية ذات أصول أخلاقية وائتمانية. من أهم أعماله روح الدين و سؤال الأخلاق.


استاذ حسان الحميني

إرسال تعليق

أووپس!!
يبدو أن هناك خطأ ما في اتصالك بالإنترنت. يرجى الاتصال بالإنترنت وبدء التصفح مرة أخرى.
الموافقة على ملفات تعريف الارتباط
نحن نقدم ملفات تعريف الارتباط على هذا الموقع لتحليل حركة المرور وتذكر تفضيلاتك وتحسين تجربتك.