استثمر في نفسك اليوم، واجعل التعلم عادة يومية. ابدأ الآن واجعل العلم رفيقك في رحلة النجاح. تابعنا على تيليجرام!

المقال 6 : النسيج الجمعي: من المفاهيم إلى الثقافة وديناميكيات التدافع الحضاري

مقدمة: ما وراء الفرد - الوعي الجمعي السائد

في المقالات السابقة، استكشفنا عالم المفاهيم على المستوى الفردي: كيف تتشكل، وكيف تتفاعل داخليًا مع أنظمتنا المعرفية والوجدانية، وكيف تؤسس لتصوراتنا ومعتقداتنا وقيمنا. لكن الإنسان كائن اجتماعي بطبعه، لا يعيش بمعزل عن الآخرين؛ أفكاره ومفاهيمه لا تتشكل فقط من تجربته الذاتية، بل تتأثر بشدة بالمحيط الذي يعيش فيه، وتتشارك وتتفاعل مع مفاهيم الآخرين ضمن نسيج اجتماعي أوسع.

عندما تهيمن شبكة معينة من المفاهيم الأساسية على مجتمع ما، وتنبثق عنها تصورات ومعتقدات وقيم سائدة توجه سلوك أفراده بشكل عام، نكون قد انتقلنا إلى مستوى أعلى وأكثر تعقيدًا : مستوى الثقافة. فالثقافة ليست مجرد فنون أو عادات سطحية، بل هي في جوهرها ذلك النسيج الجمعي، المرئي وغير المرئي، الذي يربط أفراد المجتمع، ويوجه سلوكهم بشكل غالب، ويمنحهم هوية مميزة، ويشكل إطار تفاعلهم مع العالم ومع الحضارات الأخرى. يهدف هذا المقال إلى استكشاف كيف تنبثق ملامح الثقافة من المفاهيم السائدة والمهيمنة، وكيف تصبح هذه الثقافات، بمنظوماتها المفاهيمية الغالبة، فاعلاً أساسيًا في ديناميكيات التدافع الحضاري.

الثقافة كنظام مفاهيمي سائد:

يمكن فهم الثقافة، في أحد أعمق مستوياتها، على أنها بمثابة نظام تشغيل للمجتمع، يتشكل من خلال شبكة معقدة من المفاهيم السائدة والمهيمنة التي تؤثر في تصورات ومعتقدات وقيم وسلوك أفراد المجتمع بشكل عام، وإن لم يكن ذلك بالضرورة بشكل متجانس أو بإجماع مطلق. يتكون هذا النظام بشكل أساسي من :

شبكة مفاهيم أساسية سائدة : تمتلك كل ثقافة مفاهيمها المحورية حول الأسئلة الكبرى (الله، الكون، الإنسان، الحياة...) التي غالبًا ما تشكل الإطار العام للتفكير، حتى لو وُجدت اختلافات في الفهم أو التطبيق بين أفراد المجتمع.

تصورات جمعية غالبة : بناءً على هذه المفاهيم السائدة، تتكون لدى قطاعات واسعة من المجتمع تصورات متقاربة عن الواقع والتاريخ والذات الجماعية والآخر، تشكل الرؤية العامة المهيمنة. يمكن اعتبار هذه التصورات الراسخة بمثابة "مفاهيم مركبة" توجه رؤية المجتمع للعالم.

معتقدات مهيمنة كمفاهيم تأكيدية : تترسخ قناعات ومعتقدات (دينية، اجتماعية، سياسية) تملك التأثير الأكبر في الخطاب العام وتوجه المؤسسات، حتى مع وجود معتقدات أخرى أقل انتشارًا أو معارضة. هذه المعتقدات المهيمنة يمكن فهمها على أنها "مفاهيم تأكيدية" تؤكد أو تنفي علاقات معينة بين المفاهيم الأساسية، وتصبح جزءًا من المسلمات الثقافية المؤثرة.

منظومة قيم مركزية كـ"مفاهيم معيارية": توجد قيم عليا تحظى باعتراف وتأثير كبير في توجيه السلوك العام والحكم على الأفعال، حتى لو لم يلتزم بها الجميع بنفس الدرجة. يمكن النظر إلى هذه القيم المهيمنة كـ"مفاهيم معيارية" ناضجة، فهي تعمل كمعايير ثقافية تحدد ما هو جيد أو مهم للمجموعة ككل (مثل قيمة الأسرة، أو الفردية، أو الأمانة...).

رموز ولغة ذات دلالات غالبة : اللغة والمصطلحات والرموز الفنية والدينية والاجتماعية هي الأوعية التي تحمل وتنقل هذه المفاهيم (الأساسية، والمركبة، والتأكيدية، والمعيارية) السائدة، وتكتسب دلالات شبه متفق عليها لدى أغلبية أبناء الثقافة.

إذًا، الثقافة هي التجسيد الجمعي لشبكة متكاملة من المفاهيم السائدة والمهيمنة بمستوياتها المختلفة، وهي التي تعطي للمجتمع ملامحه العامة وخصوصيته ونظرته الغالبة للعالم، مع الاعتراف بوجود تنوع وتدافع وربما صراع داخلي ضمن هذا الإطار العام.

المفاهيم السائدة وتشكيل السلوك الجمعي :

هذه الشبكة المفاهيمية الثقافية السائدة ليست مجرد بنية فكرية نظرية، بل لها تأثير مباشر وعميق على السلوك الفردي والجمعي :

تحديد المعايير الاجتماعية : المفاهيم المهيمنة حول الصواب والخطأ، والمقبول والمرفوض، هي التي تشكل الأعراف والقواعد غير المكتوبة التي تنظم التفاعل الاجتماعي وتضغط على الأفراد للالتزام بها.

توجيه المؤسسات: مؤسسات المجتمع (التعليمية، السياسية، الاقتصادية، الدينية...) غالبًا ما تُبنى وتعمل وفقًا للمفاهيم الأساسية السائدة في الثقافة، وتسهم في إعادة إنتاجها.

تشكيل الهوية والانتماء : الشعور بالانتماء لثقافة معينة ينبع بشكل كبير من تبني شبكتها المفاهيمية السائدة والشعور بالتماهي معها.

تفسير الأحداث والتجارب : الثقافة تزود أفرادها بـ "عدسة" مفاهيمية سائدة يرون ويفسرون من خلالها الأحداث والتجارب الفردية والجماعية.

التدافع الحضاري كتدافع مفاهيمي :

عندما تتفاعل الثقافات والحضارات المختلفة، فإن هذا التفاعل لا يكون مجرد احتكاك سطحي أو تبادل تجاري أو صراع عسكري فقط. إنه في عمقه تدافع بين هذه الشبكات المفاهيمية المختلفة، بين رؤى العالم المتنوعة التي تمثلها كل حضارة.

المزاحمة والتأثير: كل حضارة تسعى (بوعي أو بغير وعي) لنشر مفاهيمها الأساسية وتوسيع دائرة تأثيرها، باعتبارها تمثل (من وجهة نظرها) الفهم الأصح أو النموذج الأفضل للحياة.

المفاهيم كأدوات : تُستخدم المفاهيم كأدوات في هذا التدافع، سواء للهيمنة الثقافية (بفرض مفاهيم الحضارة الأقوى) أو للمقاومة والحفاظ على الهوية (بالتمسك بالمفاهيم الأصيلة ونقد المفاهيم الوافدة).

ساحات التدافع : الإعلام، التعليم، الفن، الترجمة، التكنولوجيا، كلها ساحات يتم فيها هذا التدافع المفاهيمي بشكل مستمر.

النتائج المحتملة : هذا التدافع قد يؤدي إلى التلاقح والإثراء المتبادل، أو إلى الهيمنة والتبعية، أو إلى الانغلاق والصدام، أو إلى إعادة تشكيل المفاهيم لدى الأطراف المتدافعة.

أهمية الوعي الثقافي والمفاهيمي :

إن فهم الثقافة كنسيج مفاهيمي سائد، وفهم التدافع الحضاري كتدافع مفاهيمي، هو أمر حيوي للأفراد والمجتمعات :

للأفراد : يساعد على فهم أعمق لتأثير ثقافتهم المهيمنة على تفكيرهم وسلوكهم، ويمكّنهم من التعامل الواعي والنقدي مع المفاهيم السائدة والوافدة.

للمجتمعات: يمكّنها من تشخيص نقاط القوة والضعف في شبكتها المفاهيمية السائدة، ووضع استراتيجيات للحفاظ على هويتها، وتجديد ثقافتها، والتفاعل الإيجابي والواعي مع الثقافات الأخرى، وتقديم نموذجها الخاص للعالم.

خاتمة: الثقافة كمسؤولية مفاهيمية

الثقافة ليست قدرًا محتومًا، بل هي نتاج لتراكم وتفاعل وهيمنة مفاهيم معينة عبر الزمن. إنها مسؤولية جماعية تتطلب وعيًا مستمرًا بشبكتنا المفاهيمية السائدة، وجهدًا دؤوبًا لتنقيتها وتطويرها وتأصيلها بما يتوافق مع قيمنا العليا ومصادرنا المعرفية الأساسية. فالمجتمع الذي يمتلك شبكة مفاهيمية حية، واعية، أصيلة، ومهيمنة بشكل إيجابي، هو المجتمع الأقدر على بناء ذاته، والحفاظ على هويته، والمساهمة الفاعلة والإيجابية في مسيرة الحضارة الإنسانية.


في المقال التالي، سنعود للتركيز على الجانب العملي، ونستكشف كيف يمكن التعامل مع "أمراض" المفاهيم التي قد تصيب الفرد أو المجتمع، مستلهمين رؤى مفكرين كمالك بن نبي وغيره.


حسان الحميني

إرسال تعليق

أووپس!!
يبدو أن هناك خطأ ما في اتصالك بالإنترنت. يرجى الاتصال بالإنترنت وبدء التصفح مرة أخرى.
الموافقة على ملفات تعريف الارتباط
نحن نقدم ملفات تعريف الارتباط على هذا الموقع لتحليل حركة المرور وتذكر تفضيلاتك وتحسين تجربتك.