استثمر في نفسك اليوم، واجعل التعلم عادة يومية. ابدأ الآن واجعل العلم رفيقك في رحلة النجاح. تابعنا على تيليجرام!

المقال 7 : تشخيص وعلاج الأفكار الميتة والمميتة والمسرطنة

مقدمة : عندما تمرض الأفكار

بعد أن استكشفنا عالم المفاهيم، وكيف تتشكل وتتفاعل وتؤسس لقيمنا وثقافاتنا، نصل إلى حقيقة لا مفر منها : ليست كل المفاهيم سليمة أو نافعة. تمامًا كما يصاب الجسد بالأمراض، يمكن لـ "بيئة المفاهيم" الداخلية للفرد أو للنسيج الثقافي للمجتمع أن تعاني من أمراض واعتلالات فكرية تعيق نموها وتهدد سلامتها. هذه "الأمراض المفاهيمية" قد تكون سببًا مباشرًا في جمود الأفراد وتخلف المجتمعات.
يُعد المفكر الجزائري مالك بن نبي، رحمه الله، من أبرز من شخصوا هذه الأمراض في سياق بحثه عن أسباب تخلف العالم الإسلامي وشروط نهضته. قدم لنا أدوات تحليلية قوية من خلال تمييزه بين "الأفكار الميتة" و"الأفكار المميتة". هذا المقال يهدف إلى استعراض رؤية بن نبي، مع محاولة تطويرها بإضافة تصور لنمط ثالث أشد خطورة يمكن تسميته "المفاهيم المسرطنة"، وسنبحث في كيفية تشخيص هذه الأمراض المفاهيمية واستراتيجيات علاجها.

1. المفاهيم الميتة  : الجمود وفقدان الفاعلية

التشخيص (الأعراض): يتحدث بن نبي عن الأفكار (المفاهيم) التي كانت في زمن ما حية، فاعلة، ومحركة للحضارة، لكنها مع مرور الزمن وتقادم السياقات، فقدت روحها وقدرتها على التأثير في الواقع. أصبحت مجرد هياكل لفظية محفوظة، أو طقوس تُمارس بلا وعي بمقاصدها، أو شعارات تُرفع دون أن تُلهم عملاً أو تغير سلوكًا. هي مفاهيم قد تكون سليمة في أصلها، لكنها فقدت حيويتها ووظيفتها العملية في الواقع المعاش أو تم تجميد فهمها وتطبيقها.
الخطورة : تكمن خطورتها في أنها :
تكرس الجمود : تعطي إحساسًا زائفًا بامتلاك الحقيقة أو التمسك بالأصالة، بينما هي في الواقع لا تنتج أي أثر إيجابي ملموس.
تشغل الحيز : تمنع المفاهيم الحية والجديدة من أن تأخذ مكانها وتؤدي دورها.
تُضعف الدافعية : لأنها تقدم نماذج تبدو صحيحة لكنها غير فعالة، مما قد يؤدي إلى اليأس من جدوى الأفكار نفسها.
أمثلة :
الاكتفاء بالفهم التاريخي لمفهوم "الشورى" وتطبيقاته الماضية دون السعي لتجديد آليات تفعيله في مؤسسات معاصرة قادرة على تحقيق مقاصده في المشاركة والمساءلة، مما يجعله مبدأً حيًا في نصوصه لكنه أقرب للميت في أثره العملي على أرض الواقع لدى البعض.
مفهوم "طلب العلم" إذا اقتصر على حفظ المتون واستظهارها دون فهم عميق أو ربط بالواقع أو سعي للتطبيق والإبداع.
العلاج المقترح :
التشخيص الدقيق : تمييز هذه المفاهيم الجامدة أو المعطلة.
محاولة الإحياء (التجديد) : البحث عن سبل لبث الروح فيها، بربطها بتحديات الواقع، وإعادة تفسيرها بما يتناسب مع العصر، واستخراج مقاصدها وتفعيلها بآليات جديدة.
الكشف عن عدم الجدوى (للتطبيقات الجامدة) : الاعتراف بأن بعض أشكال الفهم أو التطبيق التاريخي قد لا تكون مناسبة للعصر وتحتاج للتجاوز (مع الحفاظ على الأصول).
التركيز على المفاهيم الحية والمنتجة.

2. المفاهيم المميتة : التعطيل والتدمير المباشر

التشخيص (الأعراض) : هذه مفاهيم فاسدة أو خاطئة في جوهرها، وتعمل بشكل نشط على قتل الفاعلية، ونشر اليأس، وتبرير التخلف، وتمزيق النسيج الاجتماعي، وإعاقة أي محاولة جادة للنهوض. هي مفاهيم سامة تدمر الإرادة وتشوه الوعي.


الخطورة : قدرتها التدميرية المباشرة والفعالة. هي ليست مجرد مفاهيم غير نافعة، بل هي ضارة بشكل فعال وتعمل كفيروسات فكرية.
أمثلة:
  • مفهوم "الجبرية المطلقة" الذي ينفي الإرادة والمسؤولية الإنسانية.
  • مفهوم "اليأس من الإصلاح" أو الاستسلام للأمر الواقع واعتباره قدرًا لا يتغير.
  • مفهوم "الاستعلاء العرقي أو الطائفي" الذي يبرر التمييز والكراهية والعنف.
  • مفهوم "الغاية تبرر الوسيلة" بإطلاق، مما يسمح بتجاوز كل الضوابط الأخلاقية.
  • مفهوم "القابلية للاستعمار" الذي حلله مالك بن نبي.

العلاج المقترح (أشبه بالجراحة) :

التشخيص الدقيق والسريع: كشف هذه المفاهيم وفضح طبيعتها الهدامة.
التفكيك والنقد الجذري : تفنيدها بالحجة والبرهان وكشف تناقضاتها ومغالطاتها.
"الاستئصال" الفكري: العمل على إزالتها من الخطاب العام ومنظومات التفكير.
التحصين : بناء منظومة مفاهيمية سليمة وقوية لمقاومتها.
تقديم البدائل البناءة : استبدالها بمفاهيم سليمة ومحفزة.

3. المفاهيم المسرطنة : الخبث والانتشار والغزو (تطوير إضافي)

التشخيص (الأعراض) : يمكننا تطوير رؤية بن نبي بإضافة هذا النوع الأخطر، وهي مفاهيم لا تكتفي بأن تكون "مميتة"، بل تتصرف كالورم السرطاني الخبيث :
النمو غير المنضبط : تتضخم وتتغول بسرعة على حساب المفاهيم السليمة.
الغزو والتدمير: تدمر بنية الشبكة المفاهيمية السليمة وتفسد القيم الأساسية.
الانتشار السريع : تنتقل بسرعة داخل المجتمع وعبر الأجيال، محدثة دمارًا واسعًا.
الخداع والتخفي : قد تتخفى تحت شعارات براقة (حرية، مساواة، حقوق، تنوع...) مما يصعب كشفها مبكرًا.
التهديد الوجودي: قد تهدد القيم الإنسانية الأساسية أو استقرار المجتمع أو حتى استمرار النوع البشري.
الخطورة: تجمع بين التدمير الذاتي لـ "المميتة" وبين القدرة الهائلة على الانتشار والغزو وصعوبة السيطرة.
أمثلة :
مفاهيم "التكفير الشمولي غير المنضبط" و "العنف باسم الدين".
مفهوم "الفردانية المطلقة" التي تفكك الروابط الأسرية والاجتماعية تحت شعار الحرية الشخصية.
الدعوات لـ "تفكيك مفهوم الأسرة التقليدية" وإعادة تعريفها بشكل جذري يقوض أسسها الطبيعية والتاريخية.
مفهوم "الاستهلاك كغاية للحياة".
بعض "نظريات المؤامرة" المغلقة التي تمنع التفكير النقدي وتغذي الكراهية.
العلاج المقترح (أشبه بعلاج الأورام) :
التشخيص المبكر والحاسم : تطوير "مناعة فكرية" مجتمعية قادرة على رصد هذه المفاهيم مبكرًا.
العزل والاحتواء : العمل السريع على منع انتشارها وتأثيرها.
العلاج الجذري والشامل : تفنيدها، كشف آلياتها الخادعة، مواجهة مروجيها، تقديم بدائل شاملة ومحصنة، وقد يتطلب الأمر تدخلات حاسمة على مستوى المؤسسات.
بناء منظومة قيمية ومفاهيمية صلبة: لتقوية "الجهاز المناعي" الفكري للمجتمع.

خاتمة : نحو وعي تشخيصي وعلاجي للمفاهيم

إن الاعتراف بأن المفاهيم يمكن أن تمرض وتسبب أمراضًا فكرية وحضارية هو خطوة أولى نحو العلاج. الاستفادة من أدوات التشخيص التي قدمها مفكرون كمالك بن نبي، وتطوير فهمنا لأنماط هذه الأمراض (ميتة، مميتة، مسرطنة)، يمكننا من الانتقال من حالة الغفلة أو الإنكار إلى حالة من الوعي التشخيصي والعلاجي بأمراض الفكر والمفاهيم.
هذا الوعي هو الشرط الضروري لتطوير استراتيجيات علاجية فعالة، سواء كانت "إنعاشًا" للمفاهيم المعطلة، أو "جراحة" للمفاهيم المميتة، أو "علاجًا شاملاً" للمفاهيم المسرطنة. إن مهمة كل من يسعى للتأثير الإيجابي في الإنسان والمجتمع لا تقتصر على بناء المفاهيم السليمة، بل تشمل أيضًا تشخيص وعلاج أمراض المفاهيم التي تهدد صحة الفرد والمجتمع.


حسان الحميني

إرسال تعليق

أووپس!!
يبدو أن هناك خطأ ما في اتصالك بالإنترنت. يرجى الاتصال بالإنترنت وبدء التصفح مرة أخرى.
الموافقة على ملفات تعريف الارتباط
نحن نقدم ملفات تعريف الارتباط على هذا الموقع لتحليل حركة المرور وتذكر تفضيلاتك وتحسين تجربتك.