مقدمة: حينَ لا يتطابَقُ الفِعلُ معَ الحاجة
في مسيرةِ الأفرادِ والمُجتمعاتِ نحوَ تحقيقِ أهدافِها وتجاوُزِ تحدّياتِها، تبرُزُ حقيقةٌ بديهيةٌ ولكنّها كثيرًا ما تُغفَل: "لا يُمكِنُ إزالةُ جبلٍ بمَغْرَفَةِ حساء". هذا المَثَلُ البليغُ يُلخِّصُ مأساةَ أنْ تكونَ "الحاجةُ" أو "التحدّي" بحجمِ الجبل، بينما يكونُ "الفِعلُ" أو "الاستعدادُ" لمُواجهتِهِ بحجمِ مَغْرَفَةِ حساءٍ ضئيلة. هذا التناقُضُ الصارِخُ بينَ حجمِ المَطلوبِ وضآلةِ المَبذولِ هو ما يُحذِّرُ مِنهُ القُرآنُ الكريمُ حينَ يتحدّثُ عن "التَهْلُكَةِ"، ويأمُرُ بالإنفاقِ في سبيلِ اللهِ والإحسان. فكيفَ يُقدِّمُ لنا القُرآنُ، مِنْ خِلالِ آيةٍ جامعةٍ مِنْ سورةِ البقرة، مَنهجًا لتجنُّبِ هذهِ التَهْلُكَة، وتحقيقِ التطابُقِ المُنقِذِ بينَ الفِعلِ والحاجة؟
الآيةُ المِحوريّة: نداءٌ للإنفاقِ والإحسانِ.. وتحذيرٌ مِنَ التَهْلُكَة (البقرة: 194)
يقولُ الحقُّ تباركَ وتعالى في سياقِ الحديثِ عن الجِهادِ والإنفاقِ في سبيلِهِ: ﴿وَأَنفِقُواْ فِے سَبِيلِ اِ۬للَّهِ وَلَا تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمُۥٓ إِلَي اَ۬لتَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوٓاْۖ إِنَّ اَ۬للَّهَ يُحِبُّ اُ۬لْمُحْسِنِينَۖ﴾. هذهِ الآيةُ تَضَعُ أُسُسًا واضِحةً للمسؤوليةِ الفرديةِ والجماعيةِ في مُواجَهةِ التحدّيات.
"سَبيلُ اللهِ" الواسِع.. وحاجةُ الإنفاقِ الشامِل
الأمرُ بالإنفاقِ ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ لا يقتصِرُ على جانبٍ دونَ آخر. فكما أوضحَ الشيخُ الطوسيُّ رحمهُ الله، "سبيلُ اللهِ: هو كُلُّ طريقٍ شرَعَهُ اللهُ تعالى لِعِبادِه، يدخُلُ فيهِ الجِهاد، والحَج، وعِمارةُ القناطِرِ، والمساجِد، ومُعاوَنةُ المساكينِ، والأيتامِ، وغيرُ ذلك". فهذا "الجبلُ" مِنَ الحاجاتِ المُتنوِّعةِ يتطلّبُ إنفاقًا شامِلًا ومُستمِرًّا مِنْ كُلِّ مُكلَّفٍ مُتمكِّن.
"التَهْلُكَةُ".. ليستْ مُجرّدَ خطرٍ مادِّيّ
أمّا النهيُ عن الإلقاءِ باليَدِ إلى التَهْلُكَة ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾، فهوَ ليسَ مُجرّدَ تحذيرٍ مِنْ تعريضِ النفسِ للخطرِ المادّيِّ المُباشِر. بل إنَّ المفهومَ أعمَقُ وأشمَل.
يرى الإمامُ مُقاتِلُ بنُ سُليمانَ رحمهُ اللهُ أنَّ التَهْلُكَةَ في سياقِ الآيةِ هي "الكَفُّ عن الصدَقةِ"، فإنْ أمسَكَ الناسُ عنها فَهِيَ التَهْلُكَة.
ويُقدِّمُ الإمامُ الطبريُّ رحمهُ اللهُ تفسيرًا بليغًا بأنَّ العِبارةَ مَثَلٌ، وأنَّ معناها: "ولا تستسلِموا للهَلَكَةِ فتُعطوها أزِمَّتَكُم فتَهلِكوا". فالتارِكُ للإنفاقِ الواجِبِ أو للجِهادِ الواجِبِ أو اليائِسُ مِنْ رحمةِ اللهِ، كُلُّهُم "مُستسلِمٌ للهَلَكَةِ" و "مُلقٍ بيدِهِ إليها".
فالتَهْلُكَةُ إذًا هي نتيجةُ "تركِ الواجِباتِ" و "الاستسلامِ للضعفِ واليأسِ والقعود"، وهي تَشملُ التَهْلُكَةَ الدينيةَ والحضاريةَ والمَعنويةَ قَبلَ أنْ تكونَ مُجرّدَ هَلاكٍ مادِّي.
الإحسانُ.. تَطابُقٌ بينَ دائِرتَيْ الحاجةِ والفِعل
تختِمُ الآيةُ بالأمرِ بالإحسان: ﴿وَأَحْسِنُوا ۛ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾. والإحسانُ هنا هو "مِفتاحُ" النجاةِ مِنَ التَهْلُكَة، وهو "التطابُقُ بينَ دائِرتَيْ الحاجةِ والفِعل". فالمُحسِنُ هو الذي:
- يُدرِكُ حجمَ "الحاجةِ" (الجبل) وأولويّتَها.
- يَبذُلُ مِنْ "فِعلِهِ" (إنفاقِهِ، جُهدِهِ، عِلمِهِ) ما يتناسَبُ مع هذهِ الحاجةِ ويَسُدُّها بأفضَلِ صُورةٍ مُمكِنة (لا بمَغْرَفَةِ حساء).
- يُتقِنُ هذا الفِعلَ ويُوجِّهُهُ بدِقّةٍ لتحقيقِ الغاية.
- يَفعَلُ ذلكَ كُلَّهُ ابتغاءَ وَجهِ الله.
- التوكُّلُ الحقُّ.. والأخذُ بالأسبابِ دُونَ غُرور
ويُنبِّهُنا الإمامُ ابنُ عاشورٍ رحمهُ اللهُ إلى أنَّ وَعْدَ اللهِ بالنصرِ والتأييدِ "لا يُسقِطُ عنهم أخْذَ العُدّةِ المَعروفة". فلا يُحسَبَنَّ أنَّ الإيمانَ يُعفي مِنَ التخطيطِ والاستعدادِ وبَذْلِ الوُسْع. فطَلَبُ المُسبَّباتِ دُونَ أسبابِها هو "غَلَطٌ وسوءُ أدبٍ معَ خالِقِ الأسبابِ والمُسبَّبات". أمّا مَنْ يُفرِّطونَ في الأسبابِ ويُضيِّعونَ الفُرَصَ ثُمَّ يطلُبونَ النصر، فهُمْ "قومٌ مَغرورونَ"، وقدْ يُسلِّطُ اللهُ عليهِمْ أعداءَهم بتفريطِهم. فالنصرُ الإلهيُّ يأتي بعدَ أنْ يبذُلَ المُسلِمونَ وُسعَهم ويُحسِنوا الإعداد.
خُلاصةٌ للناهِض: لا تُواجِهِ الجِبالَ بالمَغارِف
إنَّ آيةَ البقرةِ تُقدِّمُ للناهِضِ والمُصلِحِ ميزانًا دقيقًا ومنهجًا عمليًّا لمُواجهةِ التحدّياتِ وتجنُّبِ التَهْلُكَة:
قَدِّرْ حجمَ "الحاجةِ" (الجبل) بشكلٍ صحيح: لا تستهِنْ بالتحدّياتِ ولا تُهوِّنْ مِنْ شأنِها.
أعِدَّ "الفِعلَ" (العُدّة) الذي يُناسِبُ هذهِ الحاجة: لا تكتَفِ بالجُهودِ الضئيلةِ أو الوسائِلِ غيرِ المُناسِبة ("مَغارِف الحَساء").
اجعلِ "الإحسانَ" ضابِطَكَ ومِعيارَك: اسعَ للتطابُقِ بينَ الفِعلِ والحاجةِ، إتقانًا وتوجيهًا ونِيّة.
لا تستسلِمْ للتَهْلُكَةِ بتركِ الواجِبات: فالإنفاقُ والجِهادُ (بمفهومِهِما الواسِع) والأملُ في رحمةِ اللهِ كُلُّها واجِباتٌ لا يُستغنى عنها.
اجمَعْ بينَ التوكُّلِ والأخذِ بالأسباب: ثِقْ بالله، ولكنْ لا تُفرِّطْ في الإعدادِ والاستعداد.
خاتِمة:
إنَّ "التَهْلُكَةَ" الحقيقيةَ ليستْ فقطْ في الخطرِ المادّيِّ المُحدِق، بل هي أيضًا في القُعودِ عن الواجِب، وفي التقصيرِ في الإعداد، وفي الاستسلامِ للضعفِ واليأس، وفي الغُرورِ الذي يُنسي سُنَنَ اللهِ في الأسبابِ والمُسبَّبات. والنجاةُ مِنها تكونُ بالإنفاقِ في سبيلِ اللهِ، وبالأخذِ الجادِّ بالأسباب، وبتحقيقِ الإحسانِ في كُلِّ قولٍ وعمل، فـ "إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ".
كتب حسان الحميني،
والله الموفق.