استثمر في نفسك اليوم، واجعل التعلم عادة يومية. ابدأ الآن واجعل العلم رفيقك في رحلة النجاح. تابعنا على تيليجرام!

حينَ يكونُ الحلُّ قريبًا والمَددُ قابَ قوسين (دروسٌ من قصةِ مريم)

مقدمة: غشاوةُ الأزمةِ.. وأملُ الفرج

يمرُّ الإنسانُ في رحلةِ حياتهِ بلحظاتٍ عصيبة، وأزماتٍ تبدو مُستحكِمة، ومُستعصياتٍ تضيقُ بها السُبُل. في خضمِّ هذهِ الظروفِ القاسية، ومع اشتدادِ الضغطِ النفسيِّ والشعورِ بالعجز، قد يتعطّلُ تفكيرُ الإنسانِ المُنظّم، والأخطرُ من ذلك، قد يتعطّلُ تفَكُّرُهُ العميق – ذلكَ التأمُّلُ الذي يربِطُ الأمورَ بمعانيها وغاياتِها، ويستلهِمُ البصيرةَ من الإيمان – فيغرَقُ في دوّامةِ المُشكلةِ المُباشِرةِ فاقِدًا البوصلةَ والرؤيةَ الشامِلة. لكنَّ القرآنَ الكريمَ يُقدِّمُ لنا في قصةِ السيّدةِ مريمَ عليها السلامُ نموذجًا فريدًا يكشفُ عن هذهِ الحقيقةِ النفسية، ويرسِمُ لنا منهجًا عمليًّا وإيمانيًّا لتجاوُزِ الأزمات، ويُؤكِّدُ أنَّ الفرجَ قد يكونُ أقربَ ممّا نتصوّر، وأنَّ الأخذَ بأبسطِ الأسبابِ قد يكونُ مِفتاحًا لأعظمِ النتائج.

ذُروةُ الكَرْبِ.. ويأسُ الصِّدِّيقة (مريم: 23)

تُصوِّرُ لنا سورةُ مريمَ حالَ السيّدةِ الطاهِرةِ مريمَ عليها السلامُ وهي تُواجهُ لحظةً من أصعبِ لحظاتِ حياةِ أيِّ امرأة : المَخاضَ والوِلادة، ولكنْ في ظروفٍ استثنائيةٍ تزيدُ من هَولِ الموقِف. يقولُ تعالى: ﴿فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَىٰ جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَٰذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا﴾. إنّها لحظةٌ اجتمعَ فيها الألمُ الجسدي، والوِحدةُ القاسية، والخوفُ المُرتقَبُ من اتّهامِ قومِها لها في عِرضِها وهي العفيفةُ البَتول. هذا الكَرْبُ المُرَكَّبُ بلَغَ بها حدَّ اليأسِ وتمنّي الموتِ والنسيان. لقدْ كادَ تفَكُّرُها يتعطّل، تلكَ القُدرةُ على رؤيةِ الحِكمةِ والمَعنى وطلبِ المَخرَجِ من الله، قبلَ أنْ يتعطّلَ مُجرّدُ تفكيرِها في حُلولٍ عملية.

المَددُ القريب.. والحلُّ الكامِن (مريم: 24-25)

ولكن، في لحظةِ اليأسِ هذهِ بالذات، يأتي المَددُ الإلهيُّ قريبًا وعاجِلًا، ليُؤكِّدَ أنَّ الفرجَ قد يكونُ قابَ قوسينِ أو أدنى حتى وإنْ لم نَرَهُ:
﴿فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25)﴾.

المَددُ النفسيُّ أوّلاً: ﴿أَلَّا تَحْزَنِي﴾. الطمأنةُ ورفعُ المعنوياتِ كخُطوةٍ أولى، كما لاحظَ الشيخُ أبو زهرة، فالنفسُ الحزينةُ لا تقوى على التفكيرِ أو العمل.

الحلُّ الماديُّ قريب: الماءُ (السَّرِيّ) والطعامُ (الرُّطَب) كانا في مُتناوَلِ اليدِ أو قريبينِ جدًا. النخلةُ كانتْ قائمةً في المشهد، قريبةً منها، لكنَّها لم تلتفِتْ إليها كحلٍّ مُمكِنٍ بسببِ اضطرابِها. لقدْ كانتْ بحاجةٍ إلى منْ "يَدُلُّها" على هذا الحلِّ القريب.

لُطفُ التدبير: لم يكُنِ الطعامُ مُجرّدَ سدٍّ للجوع، بل كانَ رُطَبًا جَنِيًّا، وهو مِنْ أجودِ طعامِ النُّفَساءِ كما أشارَ سيد قطب، ممّا يدُلُّ على لُطفِ اللهِ وعنايتِهِ الدقيقةِ بحالِها وحاجتِها.

الأخذُ بالسببِ اليَسير.. مِفتاحُ المُعجِزة (مريم: 25)

الأمرُ اللافتُ هُنا هو أنَّ اللهَ لم يُنزِلْ عليها الرُّطَبَ مُباشرةً، بل أمرَها بسببٍ بسيط : ﴿وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ﴾. امرأةٌ نُفَساء، في أشدِّ حالاتِ ضَعفِها، كيفَ لها أنْ تهُزَّ جِذعَ نخلة، ورُبّما كانَ يابِسًا؟

الحِكمةُ من الأمرِ بالسبب: كما أوضحَ الشيخُ الشعراوي، الحِكمةُ هي "أنْ يجمعَ لها بينَ شيئين: طلبِ الأسبابِ والاعتمادِ على المُسبِّب". فالأخذُ بالأسبابِ مطلوبٌ حتى في أضعفِ الحالات.

رمزيةُ الفِعل: الهَزُّ هنا قد يكون، كما قالَ الشعراوي، "مُجرّدَ إشارةٍ تدُلُّ على امتثالِ الأمر". فاللهُ لا يُريدُ مِنها أنْ تهُزَّ النخلةَ بقُوّتِها، بل يُريدُ مِنها صِدقَ الامتثالِ وبذلَ الوُسعِ المُتاح، مَهما كانَ يسيرًا.

التيسيرُ في السبب: حرفُ الباءِ في "بِجِذْع"، كما لفَتَ الشيخُ أبو زهرة، قد يدُلُّ على "تسهيلِ وُصولِ الرُّطَبِ إليها"، حيثُ تهُزُّ الجِذعَ القريبَ مِنها فيتساقَطُ الرُّطَبُ عليها من أعلى، مُراعاةً لحالِها كـ"نُفَساءَ والتي تُتعِبُها الحركةُ الكثيرة". إنّهُ سببٌ يسيرٌ ومُيَسَّرٌ وفي مُتناوَلِ يدِها القريبة.

عِظَمُ النتيجة: بمُجرّدِ هذا السببِ اليَسير، جاءتِ النتيجةُ المُعجِزة: ﴿تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا﴾. القِراءاتُ المُختلِفةُ للكلمة (كما فصّلَ البِقاعي) تُشيرُ إلى كثرةِ الرُّطَبِ وسُهولةِ تساقُطِهِ وتتابُعِه، ممّا يدُلُّ على وَفرةِ العطاءِ الإلهيِّ الذي يأتي بعدَ الامتثال.

خُلاصةٌ للناهِض: كيفَ ترى الحلَّ القريب؟

تُقدِّمُ لنا قصةُ مريمَ في هذهِ اللحظاتِ العصيبةِ دروسًا بليغةً لكُلِّ ناهِضٍ يُواجِهُ أزمةً أو مُستعصية:

لا تيأسْ أبدًا: مَهما اشتدَّ الكَرْبُ وضاقتِ السُبُل، ففرجُ اللهِ قريب، ومَددُهُ قد يكونُ على وشكِ الوُصول.

ابحثْ عن الحلِّ في مُحيطِك: الحُلولُ قد تكونُ قريبةً ومُتاحة، لكنَّ اضطرابَكَ قد يحجُبُها عنك. تفكّرْ بهُدوء، واستكشِفْ مُحيطَكَ وإمكاناتِكَ المُتاحة.

لا تحتقِرِ السببَ اليَسير: الأخذُ بالأسبابِ مطلوبٌ ولو بأبسطِ صُورةٍ مُمكِنة. قد يكونُ هذا السببُ اليَسيرُ هو مِفتاحَ الفرجِ والمَددِ الإلهي.

اجمَعْ بينَ السعيِ والتوكُّل: ابذُلْ جُهدَكَ المُتاحَ (هَزُّ الجِذع)، وفوِّضِ الأمرَ للهِ في النتائجِ (تساقُط الرُّطَب).

استشعِرْ لُطفَ اللهِ ورحمتَه: حتى في الأزمات، يتجلّى لُطفُ اللهِ في تدبيرِه. استشعارُ هذا اللُّطفِ يبعثُ على السكينةِ والأمل.

اطلُبِ ناصحا يدلل لك الطريق أو يخرجك من غفلة : في لحظاتِ الاضطراب، قد تحتاجُ إلى استشارةِ ناصِح، أو تدبُّرِ آية، أو دُعاءٍ مُلِحّ، أو لحظةِ تأمُّلٍ هادِئة، لتكتشِفَ الحلَّ القريبَ الذي غفلتَ عنهُ.

اهتمَّ بالأساسيات: الطمأنةُ النفسيةُ وتلبيةُ الحاجاتِ الجسديةِ أولوياتٌ لتعزيزِ الصُمود.

خاتِمة:

إنَّ قصةَ مريمَ وهَزِّها لجِذعِ النخلةِ تُعلِّمُنا أنَّ الأزماتِ ليستْ نهايةَ الطريق، وأنَّ الحُلولَ قد تكونُ كامِنةً في أقربِ الأماكِن، تنتظِرُ مِنّا فقطْ بصيرةً هادِئة، وسببًا يسيرًا نبذُلُه، وتوكُّلًا صادِقًا على الله. فلنستلهِمْ من صبرِها وإيمانِها، ولنثِقْ بأنَّ اللهَ لا يُضيعُ عبادَهُ المُخلِصين، وأنَّ معَ العُسرِ يُسرًا، وأنَّ المَددَ الإلهيَّ أقربُ إلينا ممّا نتصوّر.



كتب حسان الحميني، 
والله الموفق.

إرسال تعليق

أووپس!!
يبدو أن هناك خطأ ما في اتصالك بالإنترنت. يرجى الاتصال بالإنترنت وبدء التصفح مرة أخرى.
الموافقة على ملفات تعريف الارتباط
نحن نقدم ملفات تعريف الارتباط على هذا الموقع لتحليل حركة المرور وتذكر تفضيلاتك وتحسين تجربتك.