استثمر في نفسك اليوم، واجعل التعلم عادة يومية. ابدأ الآن واجعل العلم رفيقك في رحلة النجاح. تابعنا على تيليجرام!

الفلاح والعمل في ميزان القرآن.

 لماذا لم يركز الإسلام على مفهوم النجاح؟

عند التأمل في القرآن الكريم نجد غيابًا لافتًا لمفهومي "النجاح" و"الإسلام" بصيغتهما الاصطلاحية المعاصرة، في مقابل حضور قوي وعميق لمفاهيم مثل "الفلاح" و"العمل". هذا التباين ليس لغويًا فقط، بل يحمل دلالات فكرية وتربوية كبرى تعيد تشكيل فهمنا للحياة، والقيم، والغاية من الوجود. فبينما يُعرف النجاح في الثقافة المعاصرة بتحقيق الإنجازات المادية أو المكانة الاجتماعية، يرتقي مفهوم الفلاح في القرآن إلى أفق أوسع يشمل النجاة، والرضا الإلهي، والاستقامة، وتحقيق غاية الإنسان الوجودية.
لماذا لم يستخدم القرآن لفظ "النجاح"؟
النجاح مصطلح يرتبط غالبًا بالدنيا، وقد يُقاس بأدوات مادية: الشهرة، المال، المنصب، أو التفوق الأكاديمي. لكن القرآن لا يعترف بهذه المعايير وحدها، بل يحذر من الانخداع بها، كما في قوله تعالى:
"فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن، وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن. كلا" (الفجر: 15-17).
النجاح الدنيوي قد يكون ابتلاءً، وقد يكون سببًا في الغفلة إن لم يُربط بمقاصد عليا. لذا، لم يرد لفظ "النجاح" في القرآن، لأنه قد يحمل دلالة قاصرة عن مراد الله من الإنسان.

 الفلاح كمفهوم قرآني شامل

في المقابل، ورد لفظ "الفلاح" أكثر من 40 مرة، منها:
"قد أفلح من زكاها" (الشمس: 9)،
"قد أفلح المؤمنون" (المؤمنون: 1)،
"فلعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين" (الشعراء: 3).
الفلاح لا يعني فقط النجاح، بل هو النجاة من الخسران، والثبات على الطريق، وتحقيق الغاية الأخلاقية والروحية من الوجود. هو ربح الدنيا والآخرة معًا، وهو مرتبط بالتقوى، والعمل الصالح، والجهاد في النفس والمجتمع.
لماذا ربط القرآن الفلاح بالعمل؟

القرآن يربط دائمًا الفلاح بالعمل:

"والعصر، إن الإنسان لفي خسر، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات" (العصر: 1-3).
"ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورًا" (الإسراء: 19).
النية وحدها لا تكفي في الدنيا، بل لا بد من العمل. لكن في المقابل، ما يُدهش حقًا أن النية الصادقة مع العجز قد تُجزى أجرًا عظيمًا في الآخرة، كما في الحديث:
"إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى".
فمن نوى عملًا صالحًا ولم يستطع، كتب الله له أجره كاملًا، وهذا عدل ورحمة من الله.
 النية مقام عظيم في الميزان الإلهي
الله لا ينظر إلى النتائج الدنيوية فقط، بل إلى النية والجهد والإخلاص. في الحديث:
"من همّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة".
وهذا يُبيّن أن النجاح في الميزان الإلهي لا يُقاس بالنتائج كما هو في ثقافة اليوم، بل يُقاس بما في القلب من صدق، وما في السعي من نية.
بل إن أناسًا يدخلون الجنة بنيّاتهم، دون أن يحققوا "إنجازًا" دنيويًا كما نفهمه، لأن الله يرى ما في القلوب، ويعلم صدق المقاصد، ويُثيب على النية ما لا تُثيب عليه قوانين البشر.

 الفلاح ليس لحظة بل مسار

في القرآن، الفلاح ليس نتيجة بل مسار مستمر:
"قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى" (الأعلى: 14-15).
فالآيات تضع الفلاح في سياق دائم من التزكية والذكر والعمل.
وهذا يختلف عن مفهوم النجاح الحديث الذي يُختزل في لحظة: الحصول على شهادة، نيل جائزة، تأسيس مشروع... إلخ. أما الفلاح، فهو رحلة حياة متصلة بالله، مليئة بالمجاهدة والاستغفار والتوبة والعودة إلى الطريق كلما انحرفنا.

خطورة استبدال مفهوم الفلاح بالنجاح

عندما يصبح النجاح هو الهدف، قد يُضحّى بالقيم في سبيل الوصول إليه. لكن حين يكون الفلاح هو الغاية، يتحول الإنسان إلى مشروع أخلاقي وروحي دائم. لا يُقاس بقيمة بنكية أو شهرة إعلامية، بل بقيمة الإخلاص، والثبات، والنية الصادقة، والعمل الصالح.
النجاح قد يُلهي، أما الفلاح فلا يكون إلا في القرب من الله.

خاتمة:

القرآن لا يعترف بالنجاح كمصطلح منفصل عن الإيمان والعمل الصالح. بل يوجهنا إلى الفلاح كغاية، ويُعلّمنا أن النية الصادقة قد ترفع صاحبها إلى مراتب الشهداء حتى إن لم يفعل شيئًا ماديًا ظاهرًا. هذا الميزان الرباني يعيد ترتيب أولوياتنا، ويجعلنا نسعى في الأرض لا لنتباهى بالنجاحات، بل لنسلك طريق الفلاح العظيم الذي يجمع بين سعادة الدنيا ورضوان الآخرة.



د.سامر الجنيدي_القدس

إرسال تعليق

أووپس!!
يبدو أن هناك خطأ ما في اتصالك بالإنترنت. يرجى الاتصال بالإنترنت وبدء التصفح مرة أخرى.
الموافقة على ملفات تعريف الارتباط
نحن نقدم ملفات تعريف الارتباط على هذا الموقع لتحليل حركة المرور وتذكر تفضيلاتك وتحسين تجربتك.