استثمر في نفسك اليوم، واجعل التعلم عادة يومية. ابدأ الآن واجعل العلم رفيقك في رحلة النجاح. تابعنا على تيليجرام!

"وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ": كيفَ نَهدِمُ "أسوارَ القُنوطِ" بـ "أسوارِ الحِفْظِ"


مقدمة: حينَ تُطبِقُ الأوهامُ وتَرتفِعُ أسوارُ اليأس

في مَسيرةِ الحياةِ المليئةِ بالتحدّياتِ والابتلاءات، قدْ تمُرُّ بالإنسانِ لحظاتٌ يشعُرُ فيها بأنَّ "أوهامًا تُطبِقُ عليهِ وكأنّهُ في حَجَرٍ مُغلَقٍ لا يستطيعُ مِنْهُ فِكاكًا". هذهِ الأوهامُ قدْ تتجسّدُ في شعورٍ طاغٍ بالقُنوطِ واليأس، فتبني حولَهُ "أسوارًا" نفسيةً وفِكريةً تَسجِنُهُ وتَشُلُّ حركتَهُ وتَحجُبُ عنهُ نورَ الأمَل. فكما أنَّ "الأسوارَ العاليةَ" التي نَظُنُّها حِمايةً قدْ تُصبِحُ سِجنًا، كذلكَ القُنوطُ مِنْ رحمةِ اللهِ يُصبِحُ سِجنًا للنَّفْسِ يُعيقُها عن السعيِ والعملِ والنهوض. ولكنَّ القُرآنَ الكريم، وهو كتابُ الهِدايةِ والبُشرى، لا يَكتفي بتشخيصِ هذا الداء، بل يُقدِّمُ لنا الدواءَ والنموذَجَ لكيفيةِ هَدْمِ "أسوارِ القُنوطِ" والتحصُّنِ مِنها بـ"أسوارِ الحِفْظِ" الإيمانيِّ والعَقَدي. ونجدُ في سورةِ الحِجر، في سياقِ قِصّةِ نبيِّ اللهِ إبراهيمَ عليهِ السلام، درسًا بليغًا في هذا الشأن.
بُشرى إبراهيمَ وفَرَجُ لوط: حينَ تتجلّى رحمةُ اللهِ وقُدرتُه (الحِجر: 51-56 وما بعدها)
يُقَدِّمُ لنا القُرآنُ الكريمُ في سورةِ الحِجر مَشهدًا إيمانيًّا فريدًا، حيثُ تأتي الملائِكةُ لِتُبشِّرَ إبراهيمَ الخليلَ عليهِ السلامُ بِغُلامٍ عَليمٍ وهو في شَيخوخةٍ كَبيرَةٍ وامرأتُهُ عاقِر. أمامَ هذهِ البُشرى التي تَبدو مُخالِفةً للأسبابِ الظاهِرة، يتعجّبُ إبراهيمُ قائِلاً: ﴿أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَىٰ أَن مَّسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ﴾. فتُجيبُهُ الملائِكةُ مُؤكِّدةً: ﴿قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُن مِّنَ الْقَانِطِينَ﴾. هُنا، وفي خِضَمِّ هذا المَوقِفِ الذي قدْ يَدعو لليأسِ مِنْ تَحقُّقِ الوَعدِ لِظاهِرِ الأسباب، يأتي التوجيهُ الإلهيُّ الصريحُ بالابتعادِ عن القُنوط.
ثمَّ يأتي ردُّ إبراهيمَ عليهِ السلامُ كإعلانٍ إيمانيٍّ راسِخٍ يُقرِّرُ حقيقةً كُبرى: ﴿قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ﴾ (الحِجر: 56). هذا الردُّ، كما أوضحَ المُفسِّرونَ، ليسَ إقرارًا بالقُنوط، بل هو "إنكارٌ" مِنْ إبراهيمَ لأنْ يكونَ مِنَ القانِطين. فهو، كما يقولُ الإمامُ البِقاعيُّ رحمهُ الله، "ما كانَ قانِطًا، وإنّما كانَ مُريدًا لِتحقيقِ الخَبَر". وكانَ تساؤُلُهُ، كما أشارَ الشيخُ الشعراويُّ رحمهُ الله، ليسَ شَكًّا في قُدرةِ الله، بل هو "تعجُّبٌ مِنْ طَلاقةِ القُدرةِ... لكيفيةِ الوُقوع".
ويأتي هذا المَشهَدُ مُتزامِنًا أو مُتتابعًا معَ قِصّةِ نجاةِ نبيِّ اللهِ لوطٍ عليهِ السلامُ وأهلِهِ (إلا امرأتَهُ) وهلاكِ قومِهِ الظالِمين، لِيُؤكِّدَ القُرآنُ على أنَّ "الفَرَجَ" الإلهيَّ قادِمٌ لا مَحالةَ للمُؤمنينَ الصابِرين، وأنَّ قُدرةَ اللهِ لا تُحدُّها الأسبابُ الظاهِرة.

أسبابُ القُنوطِ.. وعِلاجُهُ بالعِلمِ بالله

يُحلِّلُ الإمامُ الفخرُ الرازيُّ رحمهُ اللهُ أسبابَ القُنوطِ مِنْ رحمةِ اللهِ فيَرجِعُها إلى "الجَهلِ" بثلاثةِ أُمورٍ أساسيةٍ تتعلّقُ بصفاتِ اللهِ تعالى: "أنْ يجهَلَ كونَهُ تعالى قادِرًا عليه (أيْ على تحقيقِ المَطلوب)، وأنْ يجهَلَ كونَهُ تعالى عالِمًا باحتياجِ ذلكَ العبدِ إليه، وأنْ يجهَلَ كونَهُ تعالى مُنزَّهًا عن البُخلِ والحاجةِ والجَهل". فكُلُّ هذهِ الألوانِ مِنَ الجَهلِ هي "سَبَبٌ للضلال"، ولذلكَ لا يَقنَطُ مِنْ رحمةِ ربِّهِ إلا "الضالّون".
ويُؤكِّدُ سيد قطبٍ رحمهُ اللهُ على أنَّ "الضالّينَ" هُمُ "الذينَ لا يستروِحونَ رَوْحَهُ، ولا يُحِسّونَ رحمتَهُ، ولا يستشعِرونَ رأفتَهُ وبِرَّهُ ورِعايتَه. فأمّا القَلبُ النَديُّ بالإيمان، المُتّصِلُ بالرحمن، فلا ييأسُ ولا يقنَطُ مهما أحاطَتْ بهِ الشدائِد". ويُضيفُ الشيخُ مُحمّد حسين فضل الله رحمهُ اللهُ أنَّ القانِطينَ هُمُ "الذينَ لا يعرِفونَ اللهَ حَقَّ مَعرِفَتِه، ولا يملِكونَ الوَعْيَ الإيمانيَّ الذي ينفتِحونَ فيهِ على اللهِ بالنظرةِ الواسِعةِ والفِكرةِ المُشرِقةِ والخَطِّ المُستقيم".

"أسوارُ الحِفْظِ".. في مُواجَهةِ "أسوارِ أوهامِ القُنوط"

إذا كانَ القُنوطُ يَبني "أسوارًا" مِنْ وَهْمٍ تَسجِنُ الإنسانَ وتَشُلُّ حركتَهُ، فإنَّ الإيمانَ والعِلمَ باللهِ والثِقةَ بهِ تُقيمُ "أسوارَ حِفْظٍ" مَنيعةٍ تَهدِمُ تلكَ الأوهام. هذهِ "أسوارُ الحِفْظِ" تتمثّلُ في:
اليقينُ بكمالِ قُدرةِ اللهِ وشُمولِ عِلمِهِ وسِعةِ رحمتِه.
استحضارُ نِعَمِ اللهِ السابِقةِ وإحسانِهِ المُستمِرّ، فهوَ الذي "لمْ يزَلْ إحسانُهُ دارًّا عليهِ" كما قالَ البِقاعي.
الثِقةُ بوَعْدِ اللهِ لِعِبادِهِ المُؤمنينَ بالنصرِ والتمكينِ والفَرَج.
الصبرُ الجميلُ والمُثابَرةُ على العَمَلِ والدُعاء، وعدَمُ الاستسلامِ لليأس.
التفكُّرُ في سُنَنِ اللهِ في الكَوْنِ وفي تاريخِ الأُمَم، وكيفَ أنَّ العاقِبةَ للمُتّقين.

خُلاصةٌ للناهِض: لا قُنوطَ معَ الإيمانِ الحَقّ

إنَّ الآياتِ مِنْ سورةِ الحِجر تُقدِّمُ للناهِضِ والمُصلِحِ زادًا روحيًّا وفِكريًّا لمُواجَهةِ "أسوارِ القُنوطِ" التي قدْ تُحاصِرُهُ في طريقِهِ الشاق:
لا تجعلِ الأسبابَ الظاهِرةَ سَقفًا لأمَلِك: فقُدرةُ اللهِ فوقَ كُلِّ الأسباب.
حصِّنْ نفسَكَ مِنْ القُنوطِ بالعِلمِ باللهِ وصِفاتِه: فالجَهلُ بهِ هو مَنبَعُ اليأس.
تذكّرْ دائمًا أنَّ "رَحمةَ اللهِ قريبٌ مِنَ المُحسِنينَ (والمُؤمنينَ المهتدين)": فلا تيأسْ مِنْ فَرَجِهِ ونَصرِه.
اجعلْ شِعارَكَ قولَ إبراهيمَ عليهِ السلام: "وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ".
استثمِرْ "الشِدّةَ" كفُرصةٍ لِزيادةِ اليقينِ والالتجاءِ إلى الله، لا كَسببٍ للقُنوطِ والانكِسار.

خاتِمة:

إنَّ "القُنوطَ مِنْ رحمةِ اللهِ" هو مِنْ أعظَمِ جُنودِ الشيطانِ التي يُحارِبُ بها أهلَ الإيمانِ والنهضة. ولكنَّ المُؤمِنَ الواعي، الناهِضَ البصير، هو الذي يَهْدِمُ "أسوارَ هذا الوَهْمِ" بـ"أسوارِ اليقينِ والحِفْظِ الإلهي"، ويَظَلُّ قلبُهُ مُفعَمًا بالأمَلِ والثِقةِ بالله، ساعيًا في طريقِ الخيرِ والإصلاح، مُستَحضِرًا دائمًا أنَّ معَ العُسرِ يُسرًا، وأنَّ اللهَ لا يُخلِفُ الميعاد.


حسان الحميني،
والله الموفق.

Post a Comment

أووپس!!
يبدو أن هناك خطأ ما في اتصالك بالإنترنت. يرجى الاتصال بالإنترنت وبدء التصفح مرة أخرى.
الموافقة على ملفات تعريف الارتباط
نحن نقدم ملفات تعريف الارتباط على هذا الموقع لتحليل حركة المرور وتذكر تفضيلاتك وتحسين تجربتك.