استثمر في نفسك اليوم، واجعل التعلم عادة يومية. ابدأ الآن واجعل العلم رفيقك في رحلة النجاح. تابعنا على تيليجرام!

المقال 15 : لتكونوا شهداء على الناس: من القيمة كمعيار إلى الشهادة كوظيفة حضارية


في قلب كل مشروع نهضوي، تكمن معركة أعمق من صراع السياسة والاقتصاد؛ إنها معركة "المفاهيم" و"القيم". فالقيمة ليست مجرد فضيلة أخلاقية، بل هي مفهوم ناضج يتأهل ليصبح "مبدأ" تنطلق منه الأفعال، و"معيارًا" تُوزن به الأمور. إن فهم هذه الآلية هو المدخل لفهم الوظيفة الكونية العظمى التي كلف الله بها هذه الأمة: وظيفة "الشهادة الحضارية"، والتي تتوجها الآية الجامعة في ختام سورة الحج.

فما هي علاقة القيمة بالشهادة؟ وكيف يبني الناهض مشروع أمته على هذا الأساس؟

القيمة كمبدأ ومعيار: أساس الشهادة

إن "الشهادة على الناس" ليست منصبًا تشريفيًا، بل هي مسؤولية جسيمة تقتضي "الحضور الفاعل" في مسرح الحياة. وهذا الحضور، ليكون فاعلاً ومؤثرًا، لا بد أن يرتكز على أمرين: "مبدأ" صلب ينطلق منه، و"ميزان" عادل يزن به. وكلاهما نابع من "منظومة القيم" التي يحملها الشاهد.
فالشاهد لا يشهد بهواه، بل يشهد بناءً على "معيار" موضوعي. وهنا تكمن خطورة المهمة؛ فالشاهد "مؤتمن على المعيار" الذي هو "الشريعة"، كما يقول السيد فضل الله، وليس مالكًا له. هذا الشعور بالائتمان هو الذي يضمن مصداقية الشهادة وعدالتها.

البيان القرآني: تشريح "وظيفة الشهادة"

تأتي الآية الأخيرة من سورة الحج كبيان ختامي شامل، يرسم للأمة الشاهدة خارطة طريقها، بدءًا من التكليف، مرورًا بالهوية، وصولًا إلى أدوات التنفيذ ومصدر القوة:
﴿وَجَٰهِدُواْ فِے اِ۬للَّهِ حَقَّ جِهَادِهِۦۖ هُوَ اَ۪جْتَب۪يٰكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِے اِ۬لدِّينِ مِنْ حَرَجٖۖ مِّلَّةَ أَبِيكُمُۥٓ إِبْرَٰهِيمَۖ هُوَ سَمّ۪يٰكُمُ اُ۬لْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِے هَٰذَا لِيَكُونَ اَ۬لرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَي اَ۬لنَّاسِۖ فَأَقِيمُواْ اُ۬لصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ اُ۬لزَّكَوٰةَ وَاعْتَصِمُواْ بِاللَّهِ هُوَ مَوْل۪يٰكُمْۖ فَنِعْمَ اَ۬لْمَوْل۪يٰ وَنِعْمَ اَ۬لنَّصِيرُۖ﴾ (الحج: 76).

التكليف والتشريف (الاجتهاد والاجتباء): تبدأ الآية بالأمر بـ "الجهاد" في أعلى صوره ﴿حَقَّ جِهَادِهِ﴾، وهو، كما يوضح الإمام البقاعي، يشمل "كل اجتهاد في تهذيب النفس وإخلاص العمل" بالإضافة إلى قتال الأعداء. ثم تربط هذا التكليف الشاق بالتشريف العظيم ﴿هُوَ اجْتَبَاكُمْ﴾، لتعلمنا أن تحمل المسؤولية الكبرى هو بحد ذاته اصطفاء واختيار إلهي.

الهوية والمرجعية (ملة إبراهيم والإسلام): تحدد الآية "المبدأ" الذي تنطلق منه هذه الأمة الشاهدة، فهي ليست أمة طارئة، بل هي امتداد لـ "ملة أبيكم إبراهيم" التوحيدية الأصيلة. وهويتها ليست من صنع البشر، بل هي اسم سماوي شريف ﴿هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ﴾.

الوظيفة الكبرى (الشهادة على الناس): وهنا نصل إلى قلب المهمة ﴿وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾. هذه الشهادة، كما يوضح سيد قطب، هي "وصاية على البشرية" و*"قيادة"* لها نحو الخير، وهي لا تتحقق إلا بأن تكون الأمة "أمينة على منهجها العريق... وتطبقه في حياتها الواقعية". فإن تخلت عن هذا المنهج، ردها الله "عن مكان القيادة إلى مكان التابع في ذيل القافلة".

عُدّة الشاهد: أدوات البناء الداخلي

لكي تكون الأمة أهلاً لهذه الشهادة، ولكي يكون حضورها فاعلاً، تقدم الآية "عُدّة النهوض" التي لا غنى عنها:
﴿...فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ ۖ فَنِعْمَ الْمَوْلَىٰ وَنِعْمَ النَّصِيرُ﴾

وكما يشرح سيد قطب، هذه ليست مجرد عبادات، بل هي أدوات بناء شاملة:

الصلاة: هي "صلة الفرد بمصدر القوة"، وهي أداة البناء الروحي الفردي.

الزكاة: هي "صلة الجماعة بعضها ببعض"، وهي أداة البناء الاجتماعي والتكافلي.

الاعتصام بالله: هو "العروة الوثقى"، وهو المرتكز الأساسي الذي يربط الفرد والجماعة بمصدر القوة والنصرة الوحيد. فكما يقول السيد فضل الله، الله هو "الحقيقة الوحيدة" الثابتة في كون "مهتز"، والاعتصام به هو السبيل الوحيد للثبات.

خاتمة: من بناء المفاهيم إلى أداء الشهادة

إن مهمة الناهض تبدأ من "هندسة المفاهيم" في مجتمعه، لتترسخ وتنضج مع "هندسة القيم"، فيصبح للمجتمع "مبادئ" صلبة ينطلق منها، و"معايير" واضحة يزن بها الأمور. وهذا البناء المفاهيمي والقيمي الداخلي هو الذي يؤهل الأمة لتستعيد دورها، فتتحول من أمة غائبة أو تابعة، إلى أمة "شاهدة"، لها "حضور فاعل" في العالم. هذا الحضور الذي يستمد قوته من الاعتصام بـ "نعم المولى ونعم النصير"، هو القادر على تقديم نموذج "العمران الراشد" الذي تحتاجه البشرية كلها.



كتب حسان الحميني،
والله الموفق.

إرسال تعليق

أووپس!!
يبدو أن هناك خطأ ما في اتصالك بالإنترنت. يرجى الاتصال بالإنترنت وبدء التصفح مرة أخرى.
الموافقة على ملفات تعريف الارتباط
نحن نقدم ملفات تعريف الارتباط على هذا الموقع لتحليل حركة المرور وتذكر تفضيلاتك وتحسين تجربتك.