إن الحفظ والتسميع من أجلّ العبادات وأهم مراحل التعامل مع الوحي، فهما يحفظان النص في الصدور ويصقلان الألسنة بذكر الله. لكن المأساة تبدأ حين تُختزل عملية "مدارسة القرآن" العميقة، التي كانت بين جبريل والنبي عليهما السلام، في هذه المرحلة وحدها. إن هذا "الاختزال المريع" يفرغ مفهوم "الدراسة" من طاقته التربوية والحضارية، ويحوله من عملية بناء للعقول إلى مجرد تخزين للمعلومات.
إن تحرير هذا المفهوم وإعادته إلى رحابته القرآنية هو من أولى مهام الناهض، لأن "الدراسة" الحقيقية هي الأداة التي تبني العقول وتصنع القادة. فما هو المفهوم القرآني المبارك للدراسة؟
حفرية المعنى: "الدراسة" كشفٌ للخفي
يعيدنا علم اللغة إلى الأصل. فالجذر (د-ر-س)، كما يوضح ابن فارس، يدور حول معنى "الخفاء والعفاء". فـ "الدَّرْس" هو "الطريق الخفي". وهذا يعني أن "الدراسة" ليست قراءة للواضحات، بل هي عملية أشبه بالتنقيب الأثري؛ هي جهد عقلي وروحي يُبذل لكشف المعاني الخفية والحكم التي كادت أن "تندرس". فالناهض "الدارس" هو كعالم الآثار الذي ينقب في نصوص الوحي وأحداث التاريخ ليستخرج "الكنز" المدفون من السنن والمبادئ.
منهجية الدراسة: فصل "الحب" عن "التبن"
إن أفضل مثال حسي يوضح آلية "الدراسة" هو "دَرْسِ" القمح. فهذه العملية الشاقة من الدوس المتكرر على السنابل تهدف إلى فصل "الحب" الثمين المغذي عن "التبن" والقشور. وهكذا هي الدراسة الحقيقية للنصوص والأحداث، فهي "دوس" عقلي متكرر بهدف استخلاص "حب" الحكمة الخالصة من "تبن" التفاصيل العابرة. الناهض الحقيقي هو من يقدم لأمته هذا "الحب" الصافي، لا "التبن" الذي لا يغني من جوع.
غاية الدراسة: منظومة التربية الربانية
لكن، ما هي الغاية من كل هذا الجهد؟ يجيب القرآن إجابة شافية في قوله تعالى: ﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ اَنْ يُّوتِيَهُ اُ۬للَّهُ اُ۬لْكِتَٰبَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوٓءَةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَاداٗ لِّے مِن دُونِ اِ۬للَّهِ وَلَٰكِن كُونُواْ رَبَّٰنِيِّۧنَ بِمَا كُنتُمْ تَعْلَمُونَ اَ۬لْكِتَٰبَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَۖ﴾ (آل عمران: 79).
تكشف هذه الآية أن الغاية النهائية لعملية "الدراسة" هي الوصول إلى مرتبة "الربانية". والرباني، كما شرحه الإمام الطبري، ليس مجرد عالم، بل هو "عماد الناس... في أمور الدين والدنيا"، وهو القائد الذي يجمع إلى العلم "البصر بالسياسة والتدبير".
إن الوصول لهذه الغاية يتم عبر منظومة متكاملة تؤطرها الآية: فالغاية هي التربية (كونوا ربانيين)، ومحتواها هو العلم (الكتاب)، وآليتها هي الدراسة العميقة، وروحها التي تمنحها الحياة والفاعلية هي التدبر الذي يربط العلم بالواقع. فالدراسة بلا تدبر قد تنتج علمًا جافًا، والعلم بلا تربية قد ينتج استعلاءً، والتربية لا تتحقق إلا بمنهج ودراسة.
دورة الحياة: "الدراسة" و"التعليم"
تضع الآية شرطًا مزدوجًا ومحركًا دائمًا لتحقيق الربانية: الدراسة المستمرة والتعليم المستمر. وهذا يرسم للناهض "دورة حياة" معرفية وتربوية لا تتوقف: فهو "يدرس" ليتعلم ويتعمق، ثم "يعلِّم" ما تعلمه، وهذا التعليم يدفعه لمزيد من "الدراسة" لمواجهة أسئلة الواقع وتحدياته. هذه الدورة هي التي تبقيه حيًا فاعلاً، وتصنع منه ومن حوله جيلاً ربانيًا.
إن مهمة الناهض اليوم تبدأ من هنا: من تحرير مفهوم "الدراسة" في وعيه ووعي مجتمعه، والانتقال به من "حفظ" النصوص إلى "حفر" المعاني، ومن "تجميع" المعلومات إلى "فصل" الحكمة، بهدف بناء الإنسان الرباني القادر على حمل أمانة النهضة.
كتب حسان الحميني،
والله الموفق.