استثمر في نفسك اليوم، واجعل التعلم عادة يومية. ابدأ الآن واجعل العلم رفيقك في رحلة النجاح. تابعنا على تيليجرام!

نحن دعاة لا قضاة : كيف يواجه الناهض المخالف بين منهج الاحتواء ومنطق الطرد؟


في علم الأحياء، يُعتبر رفض الجسم للعناصر الغريبة عنه ظاهرة صحية، ودليلاً على قوة جهاز المناعة. لكن في عالم الاجتماع الإنساني والأفكار، تصبح هذه القاعدة أكثر تعقيدًا. فبينما يمثل رفض "المفاهيم الفاسدة" مناعة فكرية ضرورية، فإن "طرد" الإنسان المخالف قد يكون هو الداء بعينه. وهنا، يأتي الإسلام بمنهج فريد، لا يقوم على "الطرد" كقاعدة، بل يعمل على "تليين عريكة" الرفض، ليؤسس لـ "منهج احتواء" إنساني وحكيم، وهو المنهج الذي يجب على الناهض مصلح أن يتبناه.

إن هذا التمايز بين "منطق الطرد" و"منهج الاحتواء" هو ما يفسر الفارق التاريخي بين الحضارات القائمة على "النقاء" العرقي والعقدي، والتي لفظت كل مخالف، وبين الحضارة الإسلامية التي استطاعت عبر تاريخها أن تكون مجتمعًا متنوعًا، تعيش فيه الأجناس والأديان المختلفة في تآلف نسبي، خصوصا في عصور قوتها.

منطق الطرد : حين تصبح الطهارة جريمة

يقدم لنا القرآن الكريم في قصة قوم لوط، النموذج الصارخ لمجتمع يحكمه "منطق الطرد"، ويصل فيه الانحراف إلى ذروته. فحين دعاهم نبيهم إلى الفطرة السليمة، كان ردهم، كما يقول ابن عطية، هو "ترك طريق الحجة" والعدول إلى "المغالبة" بالقوة. وكان قرارهم النهائي هو: ﴿أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ ۖ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ﴾ (النمل: 56).
هذه الآية تكشف عن "عقلية الطرد" في أبشع صورها. فالتهمة الموجهة للوط وآله ليست جريمة، بل هي فضيلة: "التطهر".
 لقد وصل هذا المجتمع إلى درجة من انتكاس الفطرة، جعلته، كما يقول ابن عطية، "يذمهم بمدحه". فالطهارة التي هي قيمة فطرية عليا، أصبحت في "شبكة مفاهيمهم" الفاسدة جريمة تستوجب النفي والطرد. وهذا، كما يشير سيد قطب، هو حال المجتمع الذي يصل إلى مرحلة "الضيق بالطهر" نفسه، لأنه يكلفه التخلي عن شهواته وانحرافاته.

منهج الاحتواء: "لا تكونوا عونًا للشيطان على أخيكم"

في المقابل تمامًا، يقدم لنا النبي صلى الله عليه وسلم "منهج الاحتواء" كقاعدة في التعامل مع المخطئ من داخل المجتمع المسلم. يتجلى هذا بوضوح في موقفه من شارب الخمر الذي لعنه بعض الصحابة، فقال قولته الخالدة: "لا تلعنوه... لا تكونوا عونًا للشيطان على أخيكم"، واللعنة لغة الطرد من رحمة الله.
هنا، نرى "طبيب المناعة" الحكيم الذي لا يبتر العضو المريض، بل يسعى لعلاجه واحتوائه. هو يفرق بين "المرض" (شرب الخمر) و"المريض" (الأخ الذي لا يزال يحب الله ورسوله). فبدلاً من "طرده" باللعن ودفعه إلى أحضان الشيطان، يأمر باحتضانه وحمايته من العدو الحقيقي.
ويتكرر هذا المنهج في قصة حاطب بن أبي بلتعة، الذي ارتكب خيانة عسكرية عظمى، فأراد عمر "بتره"، لكن النبي "احتواه" بالبحث عن دافعه، وتذكيره برصيده الإيماني. إنه فقه "إصلاح الذات" لا "إقصاء الذات".

الناهض بين الدعوة والقضاء

إن مقولة الإمام الهضيبي الخالدة "نحن دعاة لا قضاة" تلخص هذا الفرق المنهجي.

القاضي مهمته أن يحكم ويطرد ويُقصي بناءً على فعل ماضٍ.

أما الداعية والناهض، فمهمته أن يدعو ويحتوي ويصلح، ناظرًا إلى المستقبل.
عليه أن يكون حازمًا مع "المفاهيم الفاسدة"، وأن يبني "بيئة مفاهيمية طاردة" لها، كما فعل موسى عليه السلام حين واجه السحرة بقوله الحاسم: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ﴾.
لا يحبهم لكنهم أولا وأخيرا ذلك الإنسان الذي يستحق الرحمة والعدل.
لذلك في تعامله مع "الأشخاص" الذين تلبسوا بهذه المفاهيم، يظل قلبه قلب "طبيب" يسعى للشفاء، لا "سجان" يسعى للعقاب. هو يدرك أن الطرد الكامل والقطيعة التامة لا تكون إلا حين يصل المجتمع إلى حالة قوم لوط، حيث يصبح "التطهر" هو الجريمة، وحينها تكون "الهجرة" هي الحل، لا "الاحتواء".

فالناهض الحكيم هو من يمتلك هذا الميزان الدقيق، فيعرف متى يقوي "جهاز المناعة" ليرفض "الفيروس" الفكري، ومتى "يلين عريكته" ليحتوي "العضو" المريض ويعيده إلى حضن العافية.



كتب حسان الحميني،
والله الموفق.

إرسال تعليق

أووپس!!
يبدو أن هناك خطأ ما في اتصالك بالإنترنت. يرجى الاتصال بالإنترنت وبدء التصفح مرة أخرى.
الموافقة على ملفات تعريف الارتباط
نحن نقدم ملفات تعريف الارتباط على هذا الموقع لتحليل حركة المرور وتذكر تفضيلاتك وتحسين تجربتك.