في عالم تكثر فيه المظاهر الدينية وتغيب فيه الآثار الروحية، يبرز سؤال جوهري: لماذا لا نشعر بنتائج طاعاتنا؟ لماذا نصلي، نصوم، نذكر الله، ومع ذلك لا نصل إلى حالة روحانية حقيقية، ولا نشعر باتصال فعّال مع الله؟ قد نكون متدينين شكليًا، لكن أرواحنا لا تزال فارغة، تائهة، تبحث عن الله وكأنها لا تعرف الطريق.
التدين المعلول: طقوس بلا أثر
حين يصبح التدين معلولًا، لا يمكن أن يثمر. التدين حين يُفقد علته الأساسية — وهي الاتصال بالله — يتحول إلى مجرد حركات آلية، طقوس محفوظة، أداء خارجي يخلو من حرارة القلب ونور الروح. هذا التدين لا يثمر سلامًا داخليًا، ولا يطهر النفس، ولا يرقى بالإنسان إلى مراتب الإحسان.
الأخطر أن هذا الشكل من التدين قد يكون مخدّرًا روحيًا؛ يشعر الإنسان بأنه "على خير" فقط لأنه يؤدي الطقوس، فيطمئن قلبه للعادة لا لله، ويستريح ضميره للروتين لا للصلة الحقيقية. إنه يشبه من يكرر كلمة "أحبك" دون أن يشعر بها، أو من يطلب النجدة وهو لا يرفع صوته.
التدين وسوء الاستعمال
واحدة من أكبر علل التدين في واقعنا هي "سوء الاستعمال". فبدلاً من أن يكون التدين أداة للاتصال بالله، يُستعمل لأغراض أخرى:
• كوسيلة للشعور بالتفوق على الآخرين: يصبح التدين عند بعض الناس وسيلة للشعور بالتميّز الأخلاقي والاجتماعي، لا وسيلة للتواضع والخشوع.
• كستار لتغطية أوجاع النفس: يتدين البعض هروبًا من ألمه النفسي أو قلقه الوجودي، لا رغبة حقيقية في القرب من الله.
• كأداة للسيطرة: وقد يتحول التدين إلى أداة يستخدمها البعض للسيطرة على الناس أو تمرير أيديولوجيات معينة باسم الدين.
• كعادة اجتماعية: يمارس الناس التدين في رمضان مثلاً، أو في المناسبات، لأنه سلوك متعارف عليه، لا لأنه وعي واختيار.
كل هذه الاستخدامات تفرغ التدين من محتواه، وتغلق الطريق أمام الروح للتواصل مع الله.
التدين اتصال لا أداء
التدين ليس برنامج عبادة فقط، بل هو برنامج اتصال. الله لا يريد من الإنسان أداءً آليًا، بل قلبًا حاضرًا وروحًا متصلة. حين يقول الله: "وأقم الصلاة لذكري"، فإن الهدف من الصلاة ليس مجرد الحركات بل أن تتذكر الله حقًا، أن تكون حاضرًا معه، لا غائبًا تؤدي فرضًا وتنصرف.
إن التدين الصحيح هو ذاك الذي ينعكس على القلب والحال والمعاملة، ذاك الذي يجعل الإنسان أرقى خلقًا، أصدق قولًا، أنقى نيةً، وأقرب إلى الله في السراء والضراء.
كيف نصحح التدين ونزيل العلل؟
• العودة إلى النية الأصلية: لماذا تتدين؟ هل فعلاً لأنك تحب الله وتشتاق إليه؟ أم لأنك تبحث عن الطمأنينة فقط أو المجتمع يتوقع منك ذلك؟ لا بد من تصحيح النية.
• استحضار المعنى في كل طاعة: لا تؤدِّ أي عبادة دون أن تسأل نفسك: ما هدفها؟ هل أنا حاضر؟ هل أعيش اللحظة مع الله؟
• الصدق مع النفس: لا تتظاهر بالقرب من الله وأنت تعلم أن قلبك غائب. كن صادقًا في سعيك، حتى لو كان صغيرًا، فالصدق هو باب الوصول.
• التدرج في إعادة الاتصال: لا تتوقع أن تعود إلى الحالة الروحية فجأة. خصص وقتًا يوميًا للتفكر، للتأمل، للبكاء بين يدي الله، لإعادة الاتصال تدريجيًا.
• الابتعاد عن التدين العاطفي الموسمي: لا تجعل اتصالك بالله مرتبطًا بوقت معين، كن معه دائمًا، في كل حال، واطلبه كل يوم.
أمثلة على أنواع التدين المستعمل
1. التدين النفسي: للهروب من القلق أو الذنب
• الوصف: يمارسه الإنسان للهروب من ضغط نفسي أو شعور بالذنب أو رغبة في الاطمئنان المؤقت، وليس رغبة حقيقية في الله.
• مثال: شخص يرتكب ذنبًا بشكل متكرر، ثم يؤدي ركعتين أو صدقة ليهدئ ضميره، لا ليتوب.
• العِلّة: التدين يُستخدم كـ"مسكن" نفسي، لا طريق إصلاح داخلي.
2. التدين الاجتماعي: لكسب القبول والانتماء
• الوصف: التدين هنا وسيلة للاندماج في المجتمع أو لتجنّب الانتقاد.
• مثال: فتاة ترتدي الحجاب فقط لأن أهلها أو مجتمعها يتوقعون منها ذلك، لا عن قناعة داخلية.
• العِلّة: التدين هنا يخدم "الهوية الجماعية"، لا الاتصال بالله.
3. التدين السلطوي: للسيطرة أو التأثير
• الوصف: يُستخدم الدين كوسيلة للهيمنة أو كسب النفوذ أو السيطرة على الآخرين.
• مثال: قائد ديني يفرض آراءه باسم الدين، ويجعل من نفسه ممثلاً عن الله.
• العِلّة: التدين يتحول إلى سلطة أرضية باسم السماء.
4. التدين الاستعراضي: للظهور والرياء
• الوصف: يهدف إلى لفت الأنظار وكسب الإعجاب من الناس.
• مثال: شخص يُطيل صلاته في المسجد أمام الناس ويهملها في السر.
• العِلّة: الدين يصبح "عرضًا خارجيًا"، لا علاقة داخلية بالله.
5. التدين الموسمي: مرتبط بمناسبات لا بدوام القلب
• الوصف: يظهر فقط في رمضان أو الأعياد أو المصائب.
• مثال: شخص لا يصلي طوال العام، ثم يصبح ملتزمًا في رمضان فقط.
• العِلّة: التدين مؤقت، لا ينبع من جذور قلبية راسخة.
6. التدين الانتهازي: لتحقيق مصالح شخصية
• الوصف: يُستخدم للحصول على مكاسب دنيوية.
• مثال: شخص يظهر تدينه ليكسب ثقة الناس في التجارة أو السياسة.
• العِلّة: الدين يُستعمل كوسيلة تسويق لا كمنهج حياة.
7. التدين التعويضي: لتغطية تقصير في مجالات أخرى
• الوصف: يركز الإنسان على جانب ديني معين ليُعوض به ضعفه في الجوانب الأخرى.
• مثال: شخص لا يبرّ والديه، لكنه يُكثر من الصلاة والصدقات.
• العِلّة: التركيز على طاعة جزئية للتغطية على تقصير شامل.
8. التدين العدواني: للهجوم على الآخرين باسم الدين
• الوصف: يُستخدم الدين كأداة لحكم الناس، تصنيفهم، ورفضهم.
• مثال: شخص يتعامل مع غير الملتزمين بازدراء ويكفرهم بسهولة.
• العِلّة: الدين يُختزل في أداة للإدانة، لا الرحمة.
9. التدين القومي أو الحزبي: لخدمة أيديولوجيا
• الوصف: يُستخدم الدين لتبرير مشروع سياسي أو قومي.
• مثال: فصيل سياسي يفسر النصوص حسب مصلحته الحزبية.
• العِلّة: يتم تسييس الدين بدلاً من تديين النفس.
العلاج التطبيقي للتدين المعلول أو المستعمل، أي كيف نُصحّح تديننا ونعيده إلى غايته الأصلية: الاتصال الصادق بالله لا الاستعمال النفسي أو الاجتماعي أو السياسي أو العاطفي.
سأقسم العلاج إلى مستويات عملية، مع تمارين واقعية يومية:
علاج التدين المعلول: برنامج عملي تطبيقي
🔸 أولًا: النية والصدق – لماذا أتدين؟
❓تمرين الوعي:
اجلس في خلوة، واكتب في ورقة:
• لماذا أصلي؟
• لماذا أرتدي الحجاب (إن كنتِ محجبة)؟
• لماذا أطلب العلم الشرعي؟
• لماذا أتدين أصلًا؟
هدف التمرين: كشف المحركات الداخلية: هل هي حب الله؟ أم رضا الناس؟ أم عادة؟ أم خوف؟
أعد كتابة النية وأعلنها: "أنا أتدين لأتصل بالله وحده، لا لأي غرض آخر."
ثانيًا: استعادة المعنى في الطاعة
تمرين "النية قبل الفعل":
قبل كل عبادة، خصص 10 ثوانٍ لتقول:
• "يا رب، هذه الصلاة لأجلك وحدك."
• "يا رب، أنا أقرأ القرآن لأتصل بك لا لأكسب ثوابًا فقط."
• "يا رب، اجعل هذه الزكاة قربًا منك لا رياءً."
هدف التمرين: تحويل العبادة من عادة إلى لقاء.
ثالثًا: تمرين الحضور في العبادة
تمرين الدقيقة الواعية في الصلاة:
في كل صلاة يومية، اختر دقيقة واحدة (مثلاً من الفاتحة إلى الركوع) واجعلها أكثر لحظاتك حضورًا وتركيزًا.
تخيل أن الله يسمعك الآن، ويراك.
هدف التمرين: تعويد القلب على الاستحضار بدل الأداء الآلي.
رابعًا: تحويل الطاعة إلى علاقة
تمرين "دعاء القلب لا اللسان":
مرة في اليوم، ادعُ الله بدعاء عفوي، صادق، كما لو كنت تكلمه صديقًا.
لا تحفظ شيئًا، فقط أخرج ما في قلبك.
مثلاً: "يا رب، أنا متعب… اشتقت لك… سامحني… قرّبني منك."
هدف التمرين: فتح قناة "علاقة" لا مجرد كلمات محفوظة.
خامسًا: تفكيك التدين المزيف
تمرين كشف الاستعمال:
في نهاية كل يوم، اسأل نفسك:
• هل قمت بطاعة لأجل الناس؟
• هل تعمدت إظهار عبادة أمام أحد؟
• هل استعجلت عبادة بلا خشوع؟
دوّن هذه النقاط واكتب في مقابلها: "يا رب، لا أريد أن أستعملك، أريد أن أحبك."
هدف التمرين: كشف مظاهر التدين المستعمل لإعادة تصويبها.
سادسًا: العودة إلى القرآن بوصفه خطابًا شخصيًا
تمرين "آية لي أنا":
اقرأ يوميًا وجهًا من القرآن، وابحث عن آية تشعر أنها تخاطبك أنت اليوم.
دوّنها وعلق عليها في دفتر (مثلاً: "هذه الآية تذكرني بأن الله يراني حتى حين أضعف").
هدف التمرين: بناء علاقة شخصية مع القرآن، لا فقط تلاوة.
سابعًا: التوازن بين الظاهر والباطن
تمرين القلب والسلوك:
في نهاية اليوم، قسّم مراجعتك لجزأين:
• ظاهريًا: كم ركعة صليت؟ كم ذكرًا؟ كم صفحة؟
• باطنيًا: كم مرة شعرت بالقرب من الله؟ هل خجلت من ذنب؟ هل دعوت بتضرّع؟
هدف التمرين: موازنة بين الشكل والمضمون، فالتدين الحق يجمع بينهما.
الهدف النهائي
أن تنتقل من:
• "أقوم بالطاعة لأنها واجب"
إلى
• "أقوم بها لأنني أحب الله وأحتاجه."
ومن:
• "أريد أن أُرضي المجتمع"
إلى
• "أريد أن يراني الله صادقًا."
الخاتمة: من التدين إلى الإيمان الفعال
التدين الحقيقي هو تدين يوقظ القلب، ويشعل في النفس شوقًا لله، ويصل الإنسان بمصدر النور والرحمة. إذا كانت طاعاتك لا تثمر اتصالًا روحيًا، فلا تستسلم. بل ابحث عن العلل. راجع نيتك، طريقتك، وأسلوب ممارستك للدين.
فليس المهم أن تكون متدينًا، بل أن تكون متصلًا بالله، صادقًا في قربك، حاضرًا في عبادتك. وعندما يصبح التدين وسيلة للوصال لا للأداء، ستجد أن قلبك بدأ ينبض من جديد، وأن الله أقرب إليك مما كنت تتصور.
د.سامر الجنيدي_القدس