استثمر في نفسك اليوم، واجعل التعلم عادة يومية. ابدأ الآن واجعل العلم رفيقك في رحلة النجاح. تابعنا على تيليجرام!

بوصلة الإرادة: كيف يبحر الناهض بين تيار الرحمة وعواصف الشهوات؟



إن رحلة الناهض في الحياة ليست نزهة في بحيرة هادئة، بل هي إبحار ملحمي لسفينة يقودها ربان واعٍ في عرض محيط هائج كالأطلسي. والأمواج التي تضرب سفينته ليست مجرد أنواء طبيعية، بل هي عواصف عاتية وراءها "إرادات" واعية تتدافع وتتصارع. وفي قلب هذا البحر المتلاطم، يضع القرآن الكريم "بوصلة الإرادة" التي تكشف للناهض عن حقيقة التيارين الأعظمين اللذين يجذبان سفينته، وتمنحه الوعي اللازم للإبحار الآمن. يقول تعالى :
﴿وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا﴾ (النساء: 27)

"إرادة الله": تيار الرحمة ومنهج الهداية

قبل أن يحذرنا من العاصفة، يطمئن القرآن ربان السفينة على وجهته، ويخبره عن التيار الإلهي الصاعد الذي يدفع سفينته نحو بر الأمان: ﴿وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ﴾. إنها إرادة الخير المحض؛ إرادة التوبة والبيان والهداية والتخفيف. وكما يوضح الإمام ابن عطية رحمه الله، فإن الله يقدم إرادته أولاً كـ "توطئة، مظهرة لفساد إرادة متبعي الشهوات". فهذه الإرادة ليست مجرد خبر، بل هي، كما يرى السيد حسين فضل الله، دعوة "لتدخل الإنسان في عملية موازنة ومقارنة... ليوازن بين ما يريده الله له وبين ما يريده له الآخرون".

تشريح "إرادة أهل الشهوات": منبع الشح وفلسفة التهافت

في مقابل تيار الرحمة، تكشف الآية عن التيار المعاكس الجارف. ولكن، من هم أصحاب هذا التيار؟ يجيب الإمام الطبري رحمه الله بأنهم ليسوا فئة محددة، بل هو وصف عام؛ لأن الله "عمّ بقوله: {ويُرِيدُ الّذِينَ يَتّبعُونَ الشّهَوَاتِ}... فكان داخلاً في الذين يتبعون الشهوات: اليهود والنصارى والزناة وكل متبع باطلاً".

وما هو المنبع النفسي الخفي الذي يحرك هذا المنهج؟ يكشف لنا سياق السورة أنه الشح والحسد في قوله تعالى: ﴿أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَّا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا (53) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَىٰ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ... (54)﴾. فإرادتهم في أن نميل ميلاً عظيمًا، نابعة من حسد عميق على "فضل الهداية والطهر"، ورغبة في زوال هذه النعمة عنا. وهذا الحسد يتجلى في دوافع ظاهرة، كما يشخصها الإمام الجصاص بقوله إن إرادتهم للميل تكون: "إما لعداوتهم، أو للأنس بهم والسكون إليهم في الإقامة على المعصية".

وتتجلى هذه الفلسفة اليوم في شعار "الإنسان هو الحل" بمفهومه العلماني، الذي يعرّي المفكر طه عبد الرحمن تهافته، ببيان أنه يتحدث عن "إنسان مجرد" مقطوع عن السماء، وهو أصل المشكلة لا الحل، في مقابل "الإنسان الائتماني" الذي يبنيه القرآن. وهذا المنهج، كما يوضح السيد فضل الله، هو منهج "بلا قاعدة أساسية ثابتة... وليس لهم هدف كبير"، يجعل من الشهوة "القبلة التي يتوجهون إليها"، ويؤدي حتمًا إلى "الميل العظيم" لأنه "لا يخضع لميزان دقيق متوازن... مما يؤدي به إلى أن يفقد توازنه ويميل نحو الهاوية".

منهج الناهض: ضبط بوصلة القصد

في خضم هذه المعركة بين الإرادتين، ما هو سلاح الناهض؟ إنه "ضبط بوصلة القصد" في قلبه. يضع لنا الإمام الجصاص رحمه الله الميزان الدقيق حين يقول:

"وقد دلّت الآية على أن القَصْدَ في اتّباع الشهوة مذمومٌ، إلا أن يوافق الحق فيكون حينئذ غير مذموم في اتباع شهوته، إذ كان قصده اتباع الحق. ولكن من كان هذا سبيله لا يُطلق عليه أنه متبع لشهوته؛ لأن مقصده فيه اتباع الحق وافق شهوته أو خالفها".

هذا الميزان هو أداة المحاسبة الذاتية التي تحفظ للسفينة مسارها، وتفرق بين من قائده "الحق" ومن قائده "الهوى".

خاتمة: لمن تسلم دفة سفينتك؟

إن حياة الناهض هي رحلة إبحار في قلب صراع بين إرادتين. إنه يقف عند دفة سفينته كل يوم ليجيب عن سؤال واحد: هل سأسلم الدفة لتيار الشهوات الجارف الذي لا ميزان له، والذي سينتهي بي حتمًا إلى الميل العظيم؟ أم سأربط سفينتي بتيار الرحمة الإلهية، وأجعل بوصلتي هي إرادة الله في التوبة والهداية، لأصل إلى شاطئ الأمان؟



كتب حسان الحميني،
والله الموفق.

إرسال تعليق

أووپس!!
يبدو أن هناك خطأ ما في اتصالك بالإنترنت. يرجى الاتصال بالإنترنت وبدء التصفح مرة أخرى.
الموافقة على ملفات تعريف الارتباط
نحن نقدم ملفات تعريف الارتباط على هذا الموقع لتحليل حركة المرور وتذكر تفضيلاتك وتحسين تجربتك.