حين تحيط المدلهمات، وتشتد الخطوب، ويقوى ساعد العدو، ويتخلى الصديق والقريب، تأتي لحظات يشعر فيها أصلب الخلق وأثبتهم بحاجتهم الإنسانية إلى سند وعون. في تلك اللحظة من العزلة القاتلة والضعف المادي، تنطلق من أعماق التاريخ صرخة نبي، هي أصدق تعبير عن حال كل ناهض محاصر، وهي الصرخة التي تدوي اليوم من غزة لترتجف لها ضمائرنا : ﴿قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَىٰ رُكْنٍ شَدِيدٍ﴾ (هود: 80).
إن ما يعيشه أهلنا في غزة اليوم، من حصار شامل وقوة عدو غاشمة وخذلان عالمي مريع، هو التجسيد المعاصر لموقف لوط عليه السلام، وهو وحيد يواجه طوفان الفساد والعدوان. وصرختهم اليوم، في طلب الدواء والسلاح وكسر الحصار، هي صرخة لوط نفسها، أمنية في "قوة" ذاتية، وأمل في "ركن شديد" يأوون إليه.
فقه القوة والركن الشديد
قد يظن البعض أن هذه الأمنية هي نقص في التوكل، لكن أئمة البصيرة يوضحون لنا عمقها الشرعي والاستراتيجي. فالإمام ابن حزم رحمه الله يقرر أنه "لا جناح على لوط عليه السلام في طلب قوة من الناس"، ويستدل على ذلك بأن سنة الله في الأرض هي المدافعة ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ﴾، وبأن النبي صلى الله عليه وسلم نفسه "طلب من الأنصار والمهاجرين منعه حتى يبلغ كلام ربه". فالسعي لامتلاك "القوة" هو واجب شرعي، لأنه "ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب".
وهذا السعي لا يقتصر على القوة الذاتية، بل يمتد إلى بناء "الركن الشديد"، الذي يصفه الإمام البقاعي بأنه "جماعة هم كالركن الموصوف بالشدة". إنه الحاضنة الشعبية، والأمة المتماسكة، والظهر الذي يحمي الناهض. وهذا ما تفتقده غزة اليوم، فركن الأمة الذي كان يجب أن يكون شديدًا، أصبح واهيًا.
نبل الناهض : أمل في أمة خذلته
إن ألم لوط، كما يصور البقاعي، لم يكن خوفًا على نفسه، بل كان "تفجعًا على فوات" قدرته على نصرة الحق ومنع المنكر. وهذا هو حال الناهض اليوم في غزة. فألمه الأكبر ليس من بطش العدو، بل من خذلان الأخ.
وهنا يكمن "النبل" الذي لا يدركه الكثيرون. فالناهض المحاصر، رغم خذلان الجميع له، ورغم أنه يأوي إلى ركن الله الشديد وحده، فإنه "لنبله" ما زال يأمل في أمته ويريد لها الخير. هو يريد لقدر الله في النصرة أن يتحقق "بنا" لا "رغمًا عنا". هو يريد نصرًا تشارك فيه الأمة فتتطهر من خذلانها، وتستعيد عافيتها، وتستحق شرف الانتساب إلى قافلة الحق. إنه بدعوته لنا لنصرته، يفتح لنا باب "توبة" عملية من تقصيرنا.
خاتمة: هل نكون الركن الشديد؟
لقد أُجيبت أمنية لوط بتدخل إلهي مباشر، حيث كانت الملائكة هي ركنه الشديد. لكن الدرس لهذه الأمة الخاتمة هو أن تكون هي "الركن الشديد" لبعضها البعض. لقد هيأ الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم "الأنصار" ليكونوا ركنه الشديد الذي آواه ونصره.
واليوم، تقف غزة موقف لوط، وتطلق صرخته في ضمير الأمة. فهل سنجيب النداء ونكون "الركن الشديد" الذي يأوون إليه، فنفوز بشرف النصرة في الدنيا والآخرة؟ أم سنتركهم لمصيرهم، فنُكتب في سجل التاريخ، وفي صحائف الأعمال، في خانة "الخاذلين"؟ إن الأمر اليوم إلينا.
كتب حسان الحميني
والله الموفق.