استثمر في نفسك اليوم، واجعل التعلم عادة يومية. ابدأ الآن واجعل العلم رفيقك في رحلة النجاح. تابعنا على تيليجرام!

لا تحزن إن الله معنا : كيف تكون الهجرة منظومة متكاملة للنهضة؟


في مستهل كل عام هجري، تتجدد ذكرى حدث لم يكن مجرد انتقال جغرافي، بل كان نقطة تحول كبرى في تاريخ البشرية، ومشروع نهضة متكامل. إن "الهجرة النبوية" ليست قصة تاريخية تُروى، بل هي "منظومة عمل" تقدم للناهضين في كل عصر دروسًا في التخطيط والتوكل، وفي بناء الذات والأمة. ولفهم هذه المنظومة، يمكن النظر إليها من خلال ثلاثة مفاهيم متفاعلة ومتداخلة: التوبة، والتجديد، والهجرة، والتي تتوجها حقيقة واحدة جامعة، وهي "معية الله".

فالأعمال العظيمة تخرج من رحم المعاناة، لكنها لا تنجح إلا بتخطيط محكم وعمل جماعي، وترتكز في كل مراحلها على اليقين بمعية الله. وتأتي آية الغار في سورة التوبة لتكون الشاهد الأكبر على هذه الحقيقة: ﴿إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا...﴾ (التوبة: 40).

التوبة والهجرة والتجديد: منظومة النهضة اللولبية

إن أول خطوة في طريق النهضة هي "التوبة"، وهي ليست فقط انتقالاً من حال سيء إلى حسن، بل هي، في فهمها العميق، حركة دائمة تشمل "توبة الارتقاء" من حال حسن إلى ما هو أحسن، و"توبة التدرج" في إصلاح المجتمع. هذه التوبة القلبية والفكرية هي "الهجرة الداخلية" التي لا بد أن تسبق أي هجرة عملية. فالهجرة ليست هروبًا، بل هي "مفارقة" واعية لبيئة الفساد والضعف إلى بيئة الصلاح والتمكين. وهذه المنظومة ليست خطية تنتهي، بل هي "لولبية صاعدة"؛ فكل مرحلة من "التجديد" قد يصيبها الفتور، فتستدعي "توبة" جديدة، و"هجرة" قلبية متجددة، للانطلاق نحو مستوى أرقى من البناء.

الهجرة: قمة التخطيط وقمة التوكل

خلافًا للصورة التي قد ترتسم في الأذهان، لم تكن الهجرة النبوية قفزة في المجهول، بل كانت، كما تروي كتب السيرة، درساً في "العمل الجماعي المحكم" وقمة الأخذ بالأسباب. ولكن، في اللحظة التي انتهت فيها كل الأسباب المادية، ووصل المشركون إلى فم الغار، جاء الدرس الأكبر. هنا، تحول الأمر من عالم الأسباب إلى عالم "المسبب". لم يكن جواب النبي صلى الله عليه وسلم لصاحبه جوابًا ماديًا، بل كان إعلانًا لليقين الذي يحكم المنظومة كلها. وكما يصور سيد قطب رحمه الله المشهد: "والرسول -صلى الله عليه وسلم- وقد أنزل اللّه سكينته على قلبه، يهدئ من روعه ويطمئن من قلبه فيقول له: يا أبا بكر ما ظنك باثنين اللّه ثالثهما؟". ثم يأتي الجواب القرآني الحاسم: "لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا". لقد غير المعادلة من (اثنين في مواجهة جيش) إلى (اثنين والله معهما)، وفي هذه المعادلة، النتيجة محسومة.

"معية الله": روح المنظومة وضمانة النصر

إن "المعية" الإلهية هي روح هذه المنظومة. ويضعنا الإمام البقاعي في قلب سياق الآية، فيوضح أنها رسالة للمؤمنين في المدينة الذين تثاقلوا عن الجهاد، ليقول لهم: "إن المستنفر لهم -وهو نبيه صلى الله عليه وسلم- غير محتاج إليهم ومتوقف نصره عليهم كما لم يحتج إليهم... فيما مضى من الهجرة". فالله الذي نصره في قمة ضعفه، قادر على نصره في قمة قوته، بكم أو بغيركم.
ويقدم لنا المفسرون فهمًا عميقًا لهذه المعية. فهي ليست مجرد فكرة، بل هي مصدر "السكينة" التي تنزل على القلوب القلقة، وهي "التأييد" بالجنود غير المرئية. وهي التي تجعل "كلمة الله هي العليا". ويلتقط سيد قطب لطيفة بلاغية فيقول إن كلمة الكفر "جُعلت" سفلى، أما "كلمة اللّه هي العليا"، فهي حقيقة ثابتة وأزلية، وليست مجرد نتيجة لمعركة. فالناهض يستمد ثقته من هذه الحقيقة المطلقة، لا من انتصاراته المؤقتة.

خاتمة: صيانة الهجرة

إن قصة الهجرة في سورة التوبة تعلمنا درسًا أخيرًا: الإنجازات العظيمة تحتاج إلى "صيانة". فالدولة التي قامت بعد الهجرة لم تكن لتحمى بالأماني، بل تطلب الأمر "النفرة" و"الجهاد" و"حمل السلاح" لحمايتها من الأخطار المحدقة، وهذا هو جوهر دعوة سورة التوبة.
وهكذا، تقدم لنا الهجرة منظومة متكاملة للنهضة: تبدأ بـ"توبة" داخلية مستمرة، وتترجم إلى "عمل" دؤوب وتخطيط محكم، وتستمد قوتها من "يقين" راسخ بمعية الله، وتنتهي بـ"قوة" مادية قادرة على حماية ثمارها.

كتب حسان الحميني،
والله الموفق.

إرسال تعليق

أووپس!!
يبدو أن هناك خطأ ما في اتصالك بالإنترنت. يرجى الاتصال بالإنترنت وبدء التصفح مرة أخرى.
الموافقة على ملفات تعريف الارتباط
نحن نقدم ملفات تعريف الارتباط على هذا الموقع لتحليل حركة المرور وتذكر تفضيلاتك وتحسين تجربتك.