تؤسس سورة الإسراء لقانون تاريخي صارم من خلال استعراضها لسنة الله في بني إسرائيل: ﴿وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا﴾. إن هذا "العلو"، هو "المشي مرحًا" في صيغته الجماعية والحضارية؛ حالة من الاستكبار والاستغناء بالقوة عن منهج الله. ولكن سنة الله حتمت أن هذا العلو لا بد أن يصل إلى "نقطة الصفر"، وهي لحظة الانهيار التي يتم فيها كسر هذا الكبرياء على يد "عباد لله" - يرتفع الجسم علوا وفي لحظة انكساره تكون السرعة تساوي الصفر، تلك هي نقطة الصفر- وهذا السقوط لم يكن انتقامًا محضًا، بل كان رحمة لتحرير الإنسانية من غطرسة النموذج المتأله. وفي نفس السورة، يقدم القرآن "المنهج الوقائي" للفرد والأمة لئلا يسقطوا في نفس الفخ، وذلك في النهي الحاسم عن أصل الداء:
﴿وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ۖ إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا﴾ (الإسراء: 37)
"ولا تمش في الأرض مرحًا": تشخيص مرض الكبرياء
"المرح"، كما يعرفه ابن عطية، هو حالة من يكون "مسروراً بدنياه مقبلاً على راحته"، فتظهر آثار هذه الغفلة والأنانية في مشيته وتصرفاته. إنه ليس مجرد خلق سيء، بل هو، كما يشخصه الإمام القشيري، نتيجة حتمية لـ "الغيبة عن الذكر، والحجبة عن شهود الحقِّ". فالقلب الذي يغفل عن ذكر الله يُحجب عن شهود عظمته، وفي هذا الفراغ تتضخم "الأنا" وتنتفخ. ويرى الإمام البقاعي أن هذا الكبر هو "أعظم موقف عن العلم... ومرض بمرض الجهل"؛ الجهل بحقيقة النفس وحقيقة الكون.
"إنك لن تخرق الأرض": البرهان العقلي على وهم القوة
إن العلاج القرآني لهذا الانتفاخ الوهمي لا يقتصر على النهي، بل يقدم "برهانًا عقليًا" صادمًا يعيد المتكبر إلى حجمه الحقيقي: ﴿إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا﴾. وكما يوضح ابن عطية والبقاعي، فإن هذه حجة منطقية تقول للمتكبر: "فإذا كنت تعجز... عن خط مستقيم من عرض الأرض... وعن التطاول على أوتادها فبماذا تفخر؟ وبأيّ شيء تتكبر حتى تتبختر؟". إنها "نقطة التحول" التي ينهار فيها غرور المتكبر حين يوضع في ميزان الكون، فيرى ضآلة حجمه وعجزه المطلق.
"نقطة الصفر" كمنهج للتحول والتربية
إن لحظة إدراك العجز هذه هي "نقطة الصفر"، وهي قانون كوني وروحي للتحول. وهذه النقطة لها نموذجان: "نقطة الصفر بعد الهبوط"، كحال البشرية التي وصلت إلى الحضيض قبيل البعثة المحمدية فكانت مؤهلة للصعود. و"نقطة الصفر بعد الصعود"، كحال الصاعد في معراج القرب الذي يصل إلى قمة يدرك فيها فناءه في عظمة الله، فيعود بهبوط التواضع والرحمة.
وسورة الكهف، التي تلي الإسراء، هي "مدرسة" متكاملة في كيفية التعامل مع "نقاط الصفر" هذه: من "نقطة الصفر الإيمانية" للفتية في الكهف، إلى "نقطة الصفر المادية" لصاحب الجنتين، و"نقطة الصفر المعرفية" لموسى مع الخضر، و"نقطة الصفر الأخلاقية" لذي القرنين.
خاتمة : من "نقطة صفر الغرور" إلى "رحابة التواضع"
إن الآية تقدم منهجًا علاجيًا للكبرياء، يبدأ بتشخيص المرض، ثم يقدم البرهان العقلي لكسر الوهم. وهي دعوة للناهض ليكون قائدًا "عينه إلى السماء" فيدرك عظمة الله، و"يعرف أين يضع قدمه الآن" فيتصرف بتواضع على الأرض. فالحرية الحقيقية ليست في "المشي مرحًا"، بل هي في "التحرر من سجن الأنا"، والوصول إلى "نقطة الصفر" الاختيارية (بالذكر والتفكر)، حيث يموت الكبر وتحيا العبودية، قبل أن نُدفع إليها اضطرارًا بصدمات الأقدار.
كتب حسان الحميني،
والله الموفق.