استثمر في نفسك اليوم، واجعل التعلم عادة يومية. ابدأ الآن واجعل العلم رفيقك في رحلة النجاح. تابعنا على تيليجرام!

أهمية استرجاع الذكريات في القصة والرواية



يتضمن الاسترجاع نقلة في السرد إلى مشهد من زمن سابق، وهو أسلوب يُستخدم لتقديم معلومات أساسية ،أو للكشف عن تفاصيل مهمة حول الحبكة ،أو الشخصيات. ويمكن أنْ تتخذ الاسترجاعات أشكالًا متعددة، بما في ذلك الذكريات والأحلام وحتّى الأحداث التاريخية.

فعلاقة الحلم بالإبداع هي آلية عمل قريبة من آلية عمل الكتابة الأدبية، فتجاربنا الواقعية التي حفرت عميقا فينا، ونكتبها في قصصنا ورواياتنا عبر منظومة من الأخيلة والرموز والعلامات تصبح شيئا محاكيا لما حدث في الواقع، ولكنها ليست الواقع بالتأكيد. وهي علاقة قديمة تبدأ في الأسطورة، بوصفها كيانات حكائية، وحكايات ألف ليلة وليلة . فالحلم في الرواية له وظيفة في خدمة الفضاء الروائي، وتوسيع أفقها الدلالي، ومن ثم يظل أثره محدودا بتحقيق وظيفته، وبعدها يذوب داخل الفضاء الروائي، بوصفه عنصرا من عناصره. أمّا في القصة القصيرة ونظرا لطبيعة الوحدة الموضوعية لها وكثافتها، فالحلم ليس عنصرا فيها بل هو القصة نفسها. وهذا نجده عند الأستاذ نجيب محفوظ في ( أحلام الفترة الانتقالية ) فالحلم فن سردي مستقل، يقف إلى جوار القصة القصيرة، ويسمى ( سرد الأحلام ). أمَّا في السرد القصصي والروائي، فإنّ أحلام نومنا بلا عتبات ولا مقدمات، نجد أنفسنا داخلها فجأة، ونخرج منه كما دخلناها بلا نهايات حاسمة، ودونما تحصيل لأي معنى. وعندما نستيقظ نحاول تذكرها ، وربما يمكننا أنْ نقف على بعض المعاني، لكن علماء الدماغ يؤكدون أننا لا نتذكر منها سوى نسبه ضئيلة جدا. ومن هذا ما جاء في رواية  آرام  للروائيّة الأردنيّة فاطمة محمد الهلالات ، منطلقة من اللغة التي تتحكّم بمدلول الحلم، وطرائق صوغ الخطاب، بوصفها نسيج الدلالة السرديّة المهيمنة على المتن الروائي، ورواية (آرام) في بنائها، وحضور تلفظاتها سرد منفتح على سيرة (يوسف) العامرة بالبؤس، والشقاء، والترحال ، واستطاعت الكاتبة  أنْ تمثّل مكبوتات الرجل العربي من خلال قلم امرأة نذرت لغتها الجميلة المنفتحة على شعرية التناص، والسرد المنظّم كي تقول ما على لسانها بعيدا عن التنظيرات النسويّة، ومقولاتها، وأيديولوجياتها التي تفصل بين أدب المرأة، وأدب الرجل. لقد انفتحت الرواية على نفسها، ومجتمعها غير المحدّد زمانا ومكانا، وقدّر لها أنْ تكون مثالا عابرا للحقيقة نحو زاوية الحلم؛ ذلك الذي ظلّ يداعب مشاعر الإنسان المتعب، وهو يعتزم الرحيل نحو بلاد الآخر.

أمَّا أثر التذكر في القصة والرواية فنجده في الأدب الفلسطيني المتعلّق بالحصار الظالم والعدوانات الصهيونية وما نجم عنها من تدمير ،وقتل ،ورحيل ،وتهجير ،ولجوء، وانقسام بغيض، وأمراض مزمنة. والمقصود منها أنْ تعود الشخصية الروائية من خلال هذه التقنية إلى الوراء؛ لتتذكر أحداثاً ومواقفَ جرت معها قبل زمن معين، هذه العودة تجمد الحركة أو سير الأحداث المباشرة، لكنها تجمدها لتضيئها أو تلقي بأضواء عليها؛ الأمر الذي يجعلها أكثر حيوية وخصوبة. والتذكر يكشف شيئاً أو أشياء عن ماضي الشخصية، وهو يتم أحياناً من خلال كلمة أو جملة، أو موقف، أو شخصية مما تدفع الشخصية إلى التذكر. ويعدُّ الروائي محمد نصار أحد الكتاب المبدعين الذين اشتهروا في ميدان النتاج القصصي والروائي في فلسطين، وقد صدرت روايته (دروب العتمة) ، ولم تأت هذه الرواية بمحض الصدفة؛ وإنما جاءت ثمرة رؤيا سابقة، إذ كتب الأديب عدداً من الروايات والمجموعات القصصية التي تناولت الموضوع نفسه مثل: ثلاثيته" ،وصفحات من سيرة المبروكة، ووجع أيوب ،وليل وأسئلة وغيرها. وهي في مجملها بوح واسترجاع للحظات مصيريّة، وكتابة نفسية لأزمةٍ الإنسان ، ولعلَّ هذا ما يمكن تسجيله في هذه الرواية. فالماضي من منظاره الخاص -على الرغم من سوداويته ودروبه المعتمة - أمر يطرب له، ويحن لأيامه، فهناك أمل ينبض بالحياة. ولكنَّ أيام المستقبل جاءت أشد عتمة ، وتبخر ذلك الأمل بيد أنه ظل الروائي متمسك بأنْ يلد أمل من جديد. وهكذا تظل أيام الماضي تحمل في ثناياها معاني الجمال وأحاسيس البهجة الجميلة والحلوة لتنفتح على أمل واسع، فمن لا ماضٍ له لا حاضر له. لقد كانت الذكريات هي الأمل الذي تحيا به نفوس الناس في مجتمعهم ، فعلى هذا تعد تقنية الذاكرة من أهم الركائز التي اُستند إليها نصوص الرواية الإبداعيـة، فهي قيمة معرفية تعتمد على صور تخزينية وانبعاثية، وتتكشـف عـن قـدرات وقابليـات متعددة تبعاً للمرجعية التي تنحدر منها، ولا أحـد يجادل في أنَّ الذاكرة – بهذا المعنى- هي منطلق أي عمل أدبي، ومعينه الأساس في بنيته واقتصاده الدلالي والشكلي وتشييد عوامله المتخيلة. إذن الذكريات ناتجة عن قدرة الإنسان على تذكّر، واستحضار أحداث، وحالات من الماضي، فقدرته على التذكّر أفادته من خبرات الماضي، وساعدته في تكوين حاضره، وبناء مستقبله، ولتحقيق هذا فهو بحاجة إلى القدرة على التَخَيُّل التي تفيده في اختيار أهدافه، وتخيّل احتمالات تحقيقها.

أمَّا أهمية الرواية التأريخية في القصة والرواية فذهب جورج لوكاش لتحديد نشوء الرواية التاريخية  في القرن التاسع عشر ؛لأنَّ الروائي كان في هذا القرن يتعامل مع شخصيات الرواية بصورة تنتمي إلى الزمن الذي تمثله ،وهذا ماجعل لوكاش يضع روايات ولتر سكوت ضمن الروايات التاريخية ،وجعلها تتميز عن روايات العصور السابقة قبل القرن التاسع عشر  فكانت الروايات شبه تاريخية .  وكانت الرواية تستقي مادتها من التاريخ والاختلاف بينها وبين التاريخ من جهة الحقيقة والخيال ،فالتاريخ يسرد الحقائق وينقلها كما هي في الواقع ،أمّا الرواية فتتعامل معه بتوظيفه في عالمها المتخيل وغايتها ليس السرد التاريخي ؛ لأنَّ النصوص الإبداعية تعتمد على عنصر التخييل الذي يخلق واقعا جديدا مغايرا للحدث التاريخي. ويكون الحدث التاريخي على عكس الرِّواية في إعادته للحدث اعتماداً على قدرة في التخييل وتطبيق معايير تقنية في كتابة الرواية بوصفها منتجاً ابداعياً يستمدُّ طاقته من العمليِّة السردية فتتحول إلى عنصرٍ سردي تُفعِّله حركة زمنية تعيد وتسبق زمن الحدث التاريخي وتدخل في زمن سردي آخر له وحداته التي تستخدمها في القيِّاس، ومن هنَّا اختلفت الكتابة التاريخية السردية والكتابة التاريخية المنهجية. وستبقى الرواية التاريخية أحد أهم المنجزَّات السردية التي أسهمت إلى حدٍ بعيد في تكوين رؤيتنا إلى التأريخ الانساني المشترك بين كافة الثقافات عبر الأدب المقارن كمحاولة للمزج بين الرصد العلمي للنشاط البشري وتفسيره ثقافيا طالما أنَّ الثقافات والعلوم والاختراعات والمبادرات ترتبط بأفراد في كلِّ العصور. وقد ذُكرت الأحداث التاريخية عند  كلٍّ من البوكر العربية، وكتارا، والطيب صالح، ونجيب محفوظ.


كتابة: أ.د. صباح علي السليمان – العراق


[ينظر: كنوز نت - سهيل عيساوي ، واسترجاع الذكريات عن وعي وإدراك في رواية محمود شقير في "منزل الذكريات"د. نبيل طنّوس ، و التخييل التاريخي في الرواية / بقلم م.م. أمينة ثعبان يوسف ، و الرِّوَايَات العَرَبِيِّة التَّاريخيِّة القِّنَاع التَّارِيخي ّوالنصَّ السَّردِي /ناصر السيد النور، و تقنية التذكر في رواية «دروب العتمة» لمحمد نصار ،بقلم عبد الرحيم حمدان حمدان ، و دائرة الأحلام في رواية (آرام)/د. فاضل عبود التميمي].

Post a Comment

أووپس!!
يبدو أن هناك خطأ ما في اتصالك بالإنترنت. يرجى الاتصال بالإنترنت وبدء التصفح مرة أخرى.
الموافقة على ملفات تعريف الارتباط
نحن نقدم ملفات تعريف الارتباط على هذا الموقع لتحليل حركة المرور وتذكر تفضيلاتك وتحسين تجربتك.