استثمر في نفسك اليوم، واجعل التعلم عادة يومية. ابدأ الآن واجعل العلم رفيقك في رحلة النجاح. تابعنا على تيليجرام!

كيف يحول القرآن موقفًا محرجًا إلى فرصة للتزكية؟


المقدمة: حكاية "شيخي الطاهر" رحمه الله 

أعود بذاكرتي إلى منتصف الثمانينيات، حوالي عام 1985، حين كنت أزور صديقًا عزيزًا وصاحب فضل، كان يحلو لي أن أناديه "شيخي الطاهر" رحمه الله. وفي مرة، قصدت بيته محبةً وشوقًا، فاعتذر عن استقبالي لظرف ألمّ به. وفي الغد، جاءني يفيض حرجًا ويعيد الاعتذار. وقبل أن يسترسل، قاطعته مواسيًا وقلت: "يا شيخي الطاهر، دعنا نفرح بأن الله قدّر لنا أن نطبق، ولو مرة، أدبه الرفيع في قوله تعالى: ﴿وَإِن قِيلَ لَكُمُ اُ۪رْجِعُواْ فَارْجِعُواْ هُوَ أَزْك۪يٰ لَكُمْۖ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٞۖ﴾".
إن هذه الحكاية تكشف عن "منهج" في التعامل مع القرآن: تحويله من نص يُقرأ إلى "واقع يُعاش"، واستخدامه كـ "بلسم" لجبر الخواطر. فآية النور هذه ليست مجرد أدب اجتماعي، بل هي "مدرسة متكاملة" في "فقه التعامل مع الرفض"، تقدم منهجًا لتزكية النفس وبناء المجتمع الآمن، وهي ثمرة للشخصية التي بنتها سورة "المؤمنون".

"فقه الموقف": تفكيك الأدب الرباني

إن الآية تعالج "لحظة الرفض" الحساسة، وتحولها من موقف محرج إلى عبادة راقية:
﴿...وَإِن قِيلَ لَكُمُ اُ۪رْجِعُواْ فَارْجِعُواْ هُوَ أَزْك۪يٰ لَكُمْۖ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٞۖ﴾ (النور: 28)
فبناء الفعل للمجهول ﴿قِيلَ لَكُمْ﴾ ينزع "الشخصنة" عن الموقف، والفاء الفورية في ﴿فَارْجِعُوا﴾ تحول الرجوع من "إهانة" إلى "امتثال فوري" لأمر الله. وكما يوضح الطبري، فإن هذا الامتثال هو فعل "طاعة"، والله "عليم" بما في القلوب من رضا أو سخط، وسيجازي عليه.

"هو أزكى لكم": من الإحراج إلى التزكية

تأتي الآية لتبين "غاية" هذا الأدب: ﴿هُوَ أَزْكَىٰ لَكُمْ﴾. فالتزكية (الطهارة والنماء) تشمل كل أطراف الموقف: تزكية لقلب الزائر من الكبر وسوء الظن، وتزكية لصدر صاحب البيت من الحرج، وتزكية للمجتمع من الضغائن.
والمنهج القلبي في التعامل مع هذا الموقف، كما يضع قاعدته القشيري رحمه الله، يقوم على أمرين: "فقد تكون الأعذارُ قائمةً، وصاحبُ الملكِ بِملْكِه أوْلَى". وهذا يجمع بين "حسن الظن" في افتراض العذر، و"احترام الحق" في ملكية البيت.
"الأثر الحضاري": بناء المجتمع الآمن
إن هذا الأدب الفردي هو حجر الزاوية في بناء "الأمان المجتمعي". وكما يوضح الشيخ حسين فضل الله، فإن هذه القواعد "يضمن الإسلام بها للإنسان حريته في بيته... ما يجعله آمناً على كل أسراره وخصوصياته".
إن "حرمة البيت" هي أساس "أمان المجتمع". ويا له من معنى يبدو اليوم بعيد المنال، ونحن نرى "أناسنا المشردين في غزة"، وقد هُدمت بيوتهم فوق رؤوسهم، وسُلبت منهم أبسط معاني "المأوى" و"الأمان"! إن مشهدهم المأساوي يذكرنا بأن "حرمة البيت" ليست ترفًا، بل هي من ضروريات الحياة الإنسانية التي جاء الإسلام ليصونها.

خاتمة: تنزيل القرآن على جراح الواقع

إن حكاية "شيخي الطاهر" هي نموذج عملي لكيفية "تنزيل" القرآن على تفاصيل الحياة، ليصبح بلسمًا يعالج "جراح" العلاقات الاجتماعية. فالمجتمع "المزكى" الذي تحدثت عنه الآية، هو النتيجة الطبيعية للأفراد "المفلحين" الذين وصفتهم سورة المؤمنون، وهو البيئة الصالحة التي يشرق فيها "نور" الله.

كتب حسان الحميني،
والله الموفق.

Post a Comment

أووپس!!
يبدو أن هناك خطأ ما في اتصالك بالإنترنت. يرجى الاتصال بالإنترنت وبدء التصفح مرة أخرى.
الموافقة على ملفات تعريف الارتباط
نحن نقدم ملفات تعريف الارتباط على هذا الموقع لتحليل حركة المرور وتذكر تفضيلاتك وتحسين تجربتك.