استثمر في نفسك اليوم، واجعل التعلم عادة يومية. ابدأ الآن واجعل العلم رفيقك في رحلة النجاح. تابعنا على تيليجرام!

المقال 23: صِبْغَةُ الله : منهج القرآن لبناء ثقافة الميزان ﴿صِبْغَةَ اَ۬للَّهِۖ وَمَنَ اَحْسَنُ مِنَ اَ۬للَّهِ صِبْغَةٗۖ وَنَحْنُ لَهُۥ عَٰبِدُونَۖ﴾ (البقرة 137)



في خضم السعي البشري نحو النهضة، كثيرًا ما تتأرجح الحضارات بين قطبين مدمرين: قطب "الدروشة" الذي يغرق في الغيبيات منعزلاً عن الواقع، وقطب "الطغيان" الذي يغرق في الماديات منقطعًا عن القيم. ويبحث المصلحون عما يسمى "الضلع الغائب" الذي يحقق التوازن المنشود. يأتي هذا المقطع (الثمن 8 الحزب 2) من سورة البقرة ليقدم الإجابة، ليس كتقرير نظري، بل كمنهج عملي متكامل، ويضع في قلبه مفهومًا مركزيًا هو الحل لهذه المعضلة: ﴿صِبْغَةَ اللَّهِ﴾. هذا المقال هو محاولة لاستكشاف كيف يبني القرآن من خلال هذا المفهوم "ثقافة الميزان القسط" التي تحول التوازن من فكرة إلى نمط تفكر وحياة.
 الصبغة كهوية جامعة: تعريف العمود الفقري للمقطع
إن آية ﴿صِبْغَةَ اللَّهِ...﴾ هي "العمود الفقري" للمقطع، فهي الهوية الربانية التي يقدمها القرآن كبديل عن كل الصبغات البشرية الضيقة. هي، كما يقول ابن عاشور، "الملة التي اختارها الله تعالى، وهي ملة إبراهيم". وليست الصبغة مجرد انتماء، بل هي "ثقافة ربانية" متكاملة يتحقق فيها "الميزان القسط" بشكل عضوي، حيث يمتزج الغيب بالشهادة، والعمل بالإخلاص، والحياة بالعبادة.
آلية الصبغة (1): الوحي مفتاحًا والفطرة مخزنًا للقيم
إن آلية عمل "الصبغة" تتضح حين ندرك أن "الفطرة مخزن القيم". فالصبغة ليست إضافة خارجية، بل هي تفعيل للكنوز الفطرية التي أودعها الله فينا. إنها كما يصفها الحرالي: "حلية المسلم وفطرته". فالوحي لا يأتي ليغرب الإنسان عن ذاته، بل ليقدم له "المفتاح" الذي يفتح به "مخزن فطرته" المغلق بالأهواء والتقاليد الباطلة. وهنا يكمن جوهر الميزان: فالقيم أصلها "غيبي" (الفطرة)، وتفعيلها يتطلب "عملاً" في عالم الشهادة (الأخذ بمفتاح الوحي).
المحور الثالث: آلية الصبغة (2): التدبر ورشةً لتشرّب الوحي
إذا كان الوحي هو المفتاح، فإن "التدبر" هو ورشة استخدامه. فالتدبر ليس مجرد فهم، بل هو عملية "تشرّب" للوحي، كما وصفه ابن عاشور. ولهذا التشرب مسار عملي يبدأ بـ"اعتقال" المعاني من الآيات، ثم "نسجها" في شبكة مفاهيم مترابطة، لتتحول بعد ذلك إلى "قيم وعقائد" حية في القلب، وصولاً إلى حالة "الصبغة" التي تلون الكيان كله.
ميدان الصبغة : الرباط على الثغور والمحاججة بالأعمال
إن التفكر المنتج للصبغة لا يولد في الفراغ، بل على "الثغور"، فـ "من لا ثغر له لا فكر له" كما يقرر الدكتور طه عبد الرحمن. والناهض "المصبوغ" هو المرابط على الثغر الفاصل بين أصالة المرجعية الغيبية وتحديات الواقع المادي. في هذا الميدان، تتغير لغة الحجاج، فتتلبس "لبوس العمل". فالحجة لا تعود مجرد كلام، بل تصبح ﴿لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ﴾. فالأعمال الصالحة المخلصة تصبح هي البرهان المادي المشاهد على صدق الصبغة الغيبية الباطنة، وبذلك يتحقق الميزان القسط في ساحة الإثبات.
الخاتمة: من الصبغة كفكرة إلى الثقافة الربانية كواقع
إن "صبغة الله" هي المنهج القرآني العملي للخروج من الانفصام بين عالمي الغيب والشهادة. إنها دعوة للناهض ليحول تدبره إلى "ورشة صبغ"، وحياته إلى "ثغر رباط"، وأعماله إلى "حجة وبرهان"، ليساهم في بناء "ثقافة الميزان" التي تحتاجها البشرية كلها.

كتب حسان الحميني،
والله الموفق.

إرسال تعليق

أووپس!!
يبدو أن هناك خطأ ما في اتصالك بالإنترنت. يرجى الاتصال بالإنترنت وبدء التصفح مرة أخرى.
الموافقة على ملفات تعريف الارتباط
نحن نقدم ملفات تعريف الارتباط على هذا الموقع لتحليل حركة المرور وتذكر تفضيلاتك وتحسين تجربتك.