استثمر في نفسك اليوم، واجعل التعلم عادة يومية. ابدأ الآن واجعل العلم رفيقك في رحلة النجاح. تابعنا على تيليجرام!

كم من فئة قليلة: كيف يصنع القرآن "يقين النصر" من رحم الابتلاء؟


بعد تأسيس قواعد الإنفاق والتكافل، ينتقل القرآن بالأمة إلى ميدان "الاختبار" الحقيقي، حيث تترجم المفاهيم إلى مواقف، والنظريات إلى تضحيات. هذا المقطع من سورة البقرة ليس مجرد قصة تاريخية عن بني إسرائيل، بل هو "ورشة تخليق" و"دورة تدريبية مكثفة" للمجتمع المسلم. وكما يقول ابن عطية، "في هذه القصة بجملتها مثال عظيم للمؤمنين ومعتبر، وقد كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم معدين لحرب الكفار، فلهم في هذه النازلة معتبر". هذا المقال هو محاولة لاستكشاف كيف يبني القرآن "الميزان القسط" بين الأسباب المادية والقوانين الغيبية، ليصنع في نفس المؤمن "يقين النصر" الذي لا تهزه قلة العدد ولا كثرة العدو.

الآية العمود: "قانون غلبة القلة" كبوصلة للميدان

إن "الآية العمود" في هذا الثمن الثامن من الحزب الرابع التي تمثل "المصب" الذي تتجمع فيه كل سنن القصة، هي قوله تعالى: ﴿تِلْكَ ءَايَٰتُ اُ۬للَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّۖ وَإِنَّكَ لَمِنَ اَ۬لْمُرْسَلِينَۖ﴾ (البقرة،250)،
 فهذه الآية تؤكد أن ما جرى ليس مجرد أحداث، بل هو "آيات" وسنن إلهية. ومن أعظم هذه السنن هو القانون الذي استحضره أهل اليقين في قلب المعركة: ﴿كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾. هذا القانون ليس مجرد شعار حماسي، بل هو "العدسة" التي تعلم المؤمن أن يقرأ الواقع قراءة مزدوجة: فهو يعترف بـ "قلته" العددية في عالم الشهادة، ولكنه في نفس الوقت يستحضر "معية الله" وقانونه الحاكم في عالم الغيب، فيمتلئ قلبه بالثقة والإقدام.

 "التخليق بالابتلاء": صناعة الجيل المؤهل للنصر

النصر لا يوهب اعتباطًا، بل هو ثمرة لـ "جيل مؤهل" تم "تخليقه" (بناء أخلاقه) من خلال الابتلاءات. واختبار النهر هو "ورشة" عملية لفرز من يمتلكون "قوة الإرادة" من خلال قدرتهم على "تأجيل الإشباع"، وهو مبدأ أثبت علم النفس الحديث أهميته الحاسمة للنجاح. كما أن اختبار الاعتراض على ملك طالوت كان لفرز من يسلم لـ "معايير الله" الحقيقية في القيادة (العلم والقوة) في مقابل "المعايير المادية" الزائفة (المال والنسب). إن هذه الابتلاءات، كما يستخلص الشيخ السعدي، هي من حكمة الله "لتمييز الخبيث من الطيب، والصادق من الكاذب".

 "سنن النهوض": الدروس العملية من القصة

إن هذه القصة، كما يستخلص الشيخ السعدي، هي "مستودع للسنن" و"دليل إرشادي" لبناة النهضة. فمن أهم هذه السنن "سنة الشورى" التي هي "أكبر سبب لارتقائهم"، و"سنة القيادة" التي يكمن كمالها في اجتماع "العلم والرأي: مع القوة المنفذة بهما"، و"سنة التدافع" التي هي ضرورة حتمية "لدفع ضرر الكفار... ولولا ذلك لفسدت الأرض".

 الغاية الرسالية: "تثبيت المنهج" و"تعميق المسؤولية"

إن الآية الخاتمة ﴿تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ...﴾، كما يوضح المفسرون، هي "ختم توثيقي" و"رسالة منهج" للنبي صلى الله عليه وسلم وأمته. فـ "الآيات" هنا، كما يرى الإمام الماتريدي، تشمل "المعجزة" الخاصة، و"السنة" العامة، بل و*"جميع ما قص الله عليه في القرآن من خبر الأمم السالفة". والغاية من تلاوتها "بالحق"، كما يبين العلامة فضل الله، هي "فتح آفاق الوعي" و"تعميق الشعور بالمسؤولية"* لدى الرسول وأمته، وتأكيد "ضرورة اتباعه" لأنه يسير على "منهج المرسلين" وسننهم.

الخاتمة: غزة كتفسير معاصر

إن هذه السنن ليست مجرد تاريخ، بل هي واقع حي يتكرر. وما نشاهده اليوم في صمود أهل غزة هو "تجلٍ معاصر" لهذا المنهج القرآني: فئة قليلة، تم فرزها وتأهيلها عبر سنوات الحصار الطويلة التي كانت بمثابة نهر الابتلاء، تقرأ الواقع بـ"عدسة اليقين"، وتجمع بين "حسن الإعداد" المادي و"كمال الاستمداد" الغيبي، لتقدم للعالم "آية" جديدة من آيات الله في نصرة عباده الصابرين.


كتب حسان الحميني،
والله ولي التوفيق.

إرسال تعليق

أووپس!!
يبدو أن هناك خطأ ما في اتصالك بالإنترنت. يرجى الاتصال بالإنترنت وبدء التصفح مرة أخرى.
الموافقة على ملفات تعريف الارتباط
نحن نقدم ملفات تعريف الارتباط على هذا الموقع لتحليل حركة المرور وتذكر تفضيلاتك وتحسين تجربتك.