استثمر في نفسك اليوم، واجعل التعلم عادة يومية. ابدأ الآن واجعل العلم رفيقك في رحلة النجاح. تابعنا على تيليجرام!

المقال 24: مأساة المفاهيم المختزلة: كيف حرر القرآن "العمران" من سجن "التدين الشكلي"؟


إن صعود الحضارات وهبوطها يرتبط ارتباطًا وثيقًا بصحة مفاهيمها الكبرى وقوتها. فحين تكون المفاهيم واسعة وشاملة، تتسع رؤية الأمة وتتكامل حركتها؛ وحين تُختزل وتُقزَّم، تضيق الرؤية وتتجزأ الحركة، مما يمهد للانهيار. وفي سياق تأسيس هوية الأمة ومنهجها، تأتي آية "البر" في سورة البقرة كثورة تصحيحية ضد "جريمة اختزال المفاهيم"، لتعيد تعريف "الدين" نفسه، وتنقذه من "سجن التدين الشكلي"، وتقدم "البر" كنموذج للمفهوم القرآني الشامل الذي هو "دستور العمران".

 الآية العمود للثمن الخامس من الحزب الثالث : "البر" كهوية متكاملة لا كفعل جزئي،

تبدأ الثورة القرآنية بهدم المفهوم المختزل: ﴿لَّيْسَ اَ۬لْبِرُّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ اَ۬لْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَٰكِنِ اِ۬لْبِرُّ مَنَ اٰمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ اِ۬لَاخِرِ وَالْمَلَٰٓئِكَةِ وَالْكِتَٰبِ وَالنَّبِيٓـِٕۧنَ وَءَاتَي اَ۬لْمَالَ عَلَيٰ حُبِّهِۦ ذَوِے اِ۬لْقُرْب۪يٰ وَالْيَتَٰم۪يٰ وَالْمَسَٰكِينَ وَابْنَ اَ۬لسَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِے اِ۬لرِّقَابِ وَأَقَامَ اَ۬لصَّلَوٰةَ وَءَاتَي اَ۬لزَّكَوٰةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمُۥٓ إِذَا عَٰهَدُواْۖ وَالصَّٰبِرِينَ فِے اِ۬لْبَأْسَآءِ وَالضَّرَّآءِ وَحِينَ اَ۬لْبَأْسِۖ أُوْلَٰٓئِكَ اَ۬لذِينَ صَدَقُواْۖ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ اُ۬لْمُتَّقُونَۖ﴾ (البقرة 176)
. إنه إعلان صريح، كما يقول رشيد رضا، بأن "مجرد تولية الوجه قبلة مخصوصة ليس هو البر المقصود من الدين". ثم تبني الآية "المفهوم المنظومي" الشامل للبر، الذي هو هوية متكاملة. إن "اختزال" هذا المفهوم الواسع مثلا في مجرد "بر الوالدين" -مع عظمته- هو أحد أهم أسباب "القراءة التجزيئية" للقرآن، التي تفصل بين العبادة والأخلاق والمعاملات، وتعيق الفهم المنظومي للدين كمشروع حياة.

 المثلث الذهبي للبر: أركان بناء الشخصية العمرانية

إن "البر" كما عرفته الآية هو منظومة جامعة للكمالات الإنسانية، يمكن تصنيفها، كما فعل الإمام البيضاوي، في ثلاثة أركان متكاملة هي أركان بناء الشخص-ية العمرانية:

  • صحة الاعتقاد: ﴿مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ...﴾. وهو الأساس الفكري الذي يمنح العمران غايته وبوصلته.
  • حسن المعاشرة: ﴿وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ...﴾. وهو الترجمة العملية للإيمان في صورة تكافل ورحمة.
  • تهذيب النفس: ﴿وَأَقَامَ الصَّلَاةَ... وَالصَّابِرِينَ...﴾. وهو البناء الداخلي الذي يصنع الشخصية القادرة على حمل أعباء الاعتقاد والمعاشرة.
إن "البارّ" هو من يجمع هذه الأركان الثلاثة، وهو وحده المؤهل لبناء عمران راشد.

من الرؤية الكلية إلى التشريع الإلزامي

إن "البر" بهذه الشمولية لا يمكن أن يُترك للتطوع والمزاج الفردي. ولذلك، تلحقه مباشرة آيات التشريعات الإلزامية (كُتِبَ). فآيات القصاص والوصية والصيام ليست قوانين منفصلة، بل هي "الأعمدة الإلزامية" التي تضمن أن "بناء البر" لا ينهار في مفاصل الحياة الحيوية (الدم، المال، النفس). وهذه التشريعات ليست غاية بذاتها، بل هي ورشة عمل لتربية النفس على "التقوى". والتقوى، كما عرفها الحرالي، هي "الحصانة" التي تحفظ الإنسان من الانحراف نحو "الاستبداد" (تجاوز حدود الله بالهوى)، أو "الاستغناء" (الشعور بالاستغناء عن الله وعن خلقه الذي يؤدي إلى الكبر والظلم).

"الإيمان الحي" كشرط للبر والعمران

إن منظومة "البر" بكل أركانها لا يمكن أن يقوم بها "إيمان التقليد الميت". وكما يفصل رشيد رضا، فإن الإيمان المطلوب المنتج للبر هو "معرفة حقيقة تملك العقل والبرهان، والنفس والإذعان"، وهو الإيمان الذي يجعل الله ورسوله أحب إلى المؤمن من كل شيء. ففشلنا في بناء العمران هو في جذره فشل في تحقيق هذا "الإيمان الحي" الذي هو الوقود الوحيد لشخصية "البارّ".

الخاتمة: من استعادة المفهوم إلى استعادة العمران

إن مهمة الناهض الأولى هي "تحرير المفاهيم القرآنية" من سجون الاختزال. فالفعل الحضاري هو ابن المفهوم الصحيح. وإن استعادة "القراءة المنظومية" لآية البر، والتفاعل معها كمشروع حياة متكامل، هو المدخل الصحيح لاستعادة "شخصية البارّ" التي هي الخلية الحية الوحيدة القادرة على بناء "عمران" متوازن وراشد وفق مراد الله.

حسان الحميني،
والله الموفق

إرسال تعليق

أووپس!!
يبدو أن هناك خطأ ما في اتصالك بالإنترنت. يرجى الاتصال بالإنترنت وبدء التصفح مرة أخرى.
الموافقة على ملفات تعريف الارتباط
نحن نقدم ملفات تعريف الارتباط على هذا الموقع لتحليل حركة المرور وتذكر تفضيلاتك وتحسين تجربتك.