إنّ العالم لا يعرفُ الثبات، بل هو في تقلّبٍ دائمٍ وتحوّلٍ مستمرٍّ، تتغيّرُ فيه الممالكُ كما تتغيّرُ الفصولُ، وتنهضُ فيه الأممُ كما تسقطُ، ولا يبقى على وجهِ الدهر إلاّ وجهُ الله ذي الجلال والإكرام.
فالزمنُ يُداوِلُ بين السرّاء والضرّاء، وبين العزّ والذلّ، وبين الرفاهية والشقاء، غير أنّ السنّةَ الإلهيّةَ الخالدةَ تقول: إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ (الرعد: 11)
ومن هنا قرّر مولانا أبو الحسن الندويّ رحمه الله في كتابه الخالد ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين أنّ تاريخَ الإنسانية إنّما هو مرآةٌ لعلاقةِ الإسلام بها، فمتى ارتفع المسلمون في إيمانهم وعلمهم وأخلاقهم، ارتفعتْ معهم الإنسانيةُ جمعاء، ومتى انحطّوا في دينهم وضميرهم، خسرَ العالمُ كلَّه نوره وميزانَ عدله.
صورةُ العالم قبل الإسلام
كان العالمُ قبل بعثةِ النبيّ ﷺ يعيشُ في ظلماتٍ بعضها فوق بعض.
قد انطفأتْ فيه مشاعلُ الإيمان، وغابتْ عن العقول أنوارُ الوحي، واستبدّتْ به المادّةُ والشهوةُ، واستعبدتْ فيه القوّةُ الضعفاء. كانت الإمبراطوريتان العظميان – فارسُ والروم – غارقتين في ترفٍ وجورٍ وفسادٍ، يسودُ فيهما القانونُ الطبقيّ، وتُهدرُ فيهما كرامةُ الإنسان.
وفي شبه الجزيرة العربيّة كان الجهلُ سيّدَ الموقف، والعصبيّةُ القبليّةُ حاكمةً على النفوس، والحروبُ تشتعلُ لأتفهِ الأسباب.
المرأةُ كانت سلعةً تُباعُ وتُشترى، لا تُورَّثُ، ولا تُكرَّم، ولا تُحترم.
والحياةُ الاجتماعيّةُ والأخلاقيّةُ كانت على شفا هاويةٍ، لا عدلَ فيها ولا أمنَ ولا روحانيّة.
كانت البشريّةُ حقًّا على موعدٍ مع النور الإلهيّ، تنتظرُ فجرًا جديدًا بعد ليلٍ طويلٍ مظلمٍ.
بعثةُ النبيّ ﷺ وبدايةُ التحوّل
وفي هذا الظلامِ الدامسِ، أشرقتْ شمسُ النبوّة من مكة المكرّمة، فبدّلتِ الأرضَ غيرَ الأرض، وغيّرتْ مجرى التاريخ.
جاء محمدٌ ﷺ بالوحي الإلهيّ يحملُ رسالةَ الإصلاح الشامل، يحرّرُ العقولَ من عبادةِ المخلوق، ويُطهّرُ القلوبَ من أوضارِ الجاهليّة، ويقيمُ نظامًا جديدًا على أساسِ الإيمانِ والعدلِ والمساواة.
كان العربُ قبل الإسلام يقولون: انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا بمعناها الجاهليّ – أي انصره على كلّ حال – فجاء النبيّ ﷺ فأعادَ تفسيرها تفسيرًا ربّانيًّا وقال:
«انصرْ أخاك ظالمًا أو مظلومًا، إنْ كان ظالمًا فاردُدْه عن ظلمه، وإنْ كان مظلومًا فأعِنْه على من ظلمه».
هكذا أرسى ﷺ قاعدةَ العدلِ والإحسان، وربطَ النصرةَ بالحقّ لا بالقرابة، وبالعدالة لا بالعصبيّة.
ثمّ ربّى ﷺ أمّةً جديدةً، أخرجتِ العالمَ من ظلماتِ الجورِ إلى نورِ القسط، ومن عبادةِ الأهواء إلى عبادةِ ربّ الأرضِ والسماء.
عصرُ النور والعدالة
بهذه التربيةِ النبويّةِ الفريدة نشأتْ أمةٌ لا نظيرَ لها في التاريخ.
قامتْ دولةٌ قائمةٌ على العدلِ والإيمانِ والعلمِ والرحمة.
حكمَ الخلفاءُ الراشدون بالحقّ، وساسوا الناسَ بالعدل، حتى قال أحدُ المستشرقين:
"ما عرفتِ الدنيا حكومةً أعدلَ من حكومةِ محمدٍ وأصحابه."
كان الإسلامُ نظامًا متكاملًا يجمعُ بين الروحِ والمادّة، وبين العبادةِ والعمران، وبين الدينِ والدولة.
في ظلّه عمّ الأمنُ أرجاءَ الأرض، وارتفعتْ قيمةُ الإنسان، وازدهرتِ العلومُ والفنون، وانطلقتْ الدعوةُ إلى الله بالحكمةِ والموعظةِ الحسنة.
لم يدخلِ المسلمونَ بلادَ الناسِ بالسيوف، بل دخلوها بالأخلاقِ والصدقِ والرحمة، فأسلمتِ القلوبُ قبل أن تُفتحَ الحصون.
أصبح الإسلامُ مدرسةً عالميّةً للعدلِ والمساواةِ والتقدّمِ العلميّ والسموّ الروحيّ.
بدايةُ الانحطاط والخسارةِ الكبرى
غير أنّ الأممَ لا تبقى على حالٍ، فما إن ضعفتْ صلةُ المسلمين بدينهم، وغلبتْ عليهم الدنيا، وانشغلوا بالمظاهرِ عن الحقائق، حتى بدأ الضعفُ يتسرّبُ إلى أركانهم.
تحوّلَ الحكمُ من خلافةٍ راشدةٍ إلى ملكٍ عضوضٍ، وتبدّلتِ الأخلاقُ، وفقدتِ الأمةُ روحَها.
ثمّ جاء الاستعمارُ الغربيّ في العصورِ الحديثة فزاد الطينَ بلّة، فسُلبتِ البلادُ، وضاعتِ الهويةُ، وتحوّلتِ الأمةُ من مبلّغةٍ إلى مقلّدةٍ، ومن قائِدةٍ إلى تابعةٍ.
فلم تخسرِ الأمةُ الإسلاميةُ فقط سلطانَها ومجدَها، بل خسرَتِ الإنسانيّةُ كلَّها أعظمَ رصيدٍ أخلاقيٍّ وروحيٍّ عرفه التاريخ.
قال مولانا الندويّ رحمه الله كلمةً خالدةً:
"لم يخسرِ العالمُ بانحطاط المسلمين قصورًا ولا أسواقًا، بل خسرَ الروحَ التي كانت تنفخُ فيه الحياة، والنورَ الذي كان يهديه إلى سواء السبيل."
واقعُ الأمةِ اليومَ
إنّ مما يُؤسَفُ له أنّ العالمَ العربيَّ – مهدَ الرسالةِ ومهبطَ الوحي – قد غلبتْ عليه المادّةُ وبهْرَجُ المدنيةِ الغربية، وانصرفَ عن رسالته العالمية.
فالدولُ الغنيّةُ تُنفِقُ الأموالَ الطائلةَ في اللهو والبذخِ والزخارفِ، وتُقصّرُ في دعمِ العلمِ والدعوةِ والإصلاح.
بل بلغَ الأمرُ ببعضهم أن يُغلَقَ بابُ المسجدِ إكرامًا لزائرٍ غربيّ، أو يُشيَّدَ برجٌ يحملُ اسمَ طاغيةٍ أجنبيّ!
أيُّ تراجعٍ أعظمُ من هذا؟ وأيُّ غفلةٍ أشدُّ من هذه؟
إنّ العالمَ اليومَ في حاجةٍ ماسّةٍ إلى الإسلام، لا إلى شكله وصورته، بل إلى جوهره وروحه؛ إلى العدلِ الذي يُنقذُ المظلومين، وإلى الرحمةِ التي تُعيدُ للإنسانِ إنسانيّتَه، وإلى العلمِ الذي يُقيمُ التوازنَ بين المادةِ والروح.
الحاجةُ إلى نهضةٍ جديدةٍ
لقد آن الأوانُ أن تُبعثَ الأمةُ من جديد، وأن تُجدّدَ إيمانَها وعزيمتَها، وأن تخرجَ من التبعيّةِ إلى القيادة، ومن الغفلةِ إلى اليقظة.
فالنهوضُ لا يكونُ بالمالِ وحده، بل بالعلمِ والفكرِ والإيمانِ والخلقِ الرفيع.
ولا خلاصَ للأمةِ إلاّ بالعودةِ الصادقةِ إلى القرآنِ والسنةِ، وبالثقةِ باللهِ قبلَ الثقةِ بالغرب، وبإحياءِ روحِ الجهادِ في سبيلِ الحقّ والكرامة.
إذا عادَ المسلمون إلى أصلِهم، وعاشوا للإسلامِ كما عاش لهُ سلفُهم، فسوفَ يُشرقُ العالمُ من جديدٍ بنورِ الإسلام، ويعمُّ فيه العدلُ والسلامُ والكرامةُ الإنسانيّة.
إنّ سقوطَ المسلمين لم يكن خسارةً لهم فحسب، بل كان نكبةً على البشريّةِ جمعاء، إذ فقدتْ هاديَها ومربّيها.
وإنّ نهضتَهم القادمةَ – إذا صدقوا مع الله – ستكونُ بعونِ الله نهضةً للعالمِ كلّه، كما كانتْ نهضتُهم الأولى.
فالإسلامُ لم يُبعَثْ لأمّةٍ بعينها، بل للبشريّةِ كلّها، وإذا صلحَ المسلمون صلحَ العالمُ، وإذا فسدوا فسدَتِ الدنيا.
(ملخّصٌ موسّعٌ من كتاب ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين لمولانا أبي الحسن عليّ الندويّ رحمه الله)
ابو خالد بن ناظر الدین القاسمی