منذ عقودٍ طويلة، اعتمدت السياسة الأميركية في الشرق الأوسط على تكريس معادلات القوة لمصلحة إسرائيل، وتقديم أي مبادرة أو خطة على أنها مشروع "سلام" في المنطقة، بينما هي في حقيقتها تصب في اتجاه نزع أدوات المقاومة من الفلسطينيين، وتركهم في مواجهة آلة عسكرية متفوقة.
إنَّ خطة الرئيس الأميركي "دونالد ترمب" بشأن غزة، والتي تضمنت بشكل صريح تجريد المقاومة الفلسطينية من السلاح، ليست استثناءً من هذا النهج؛ بل امتدادٌ مباشر له!! وإنَّ قراءة هذه الخطة لا يمكن أن تتم بمعزل عن تجارب تاريخية مشابهة، حيث تم نزع السلاح من شعوب أو دول تحت ذرائع "الأمن والسلام" ثم تُركت هذه الشعوب لاحقًا ضحية لإبادة جماعية أو اجتياحات كبرى، ومن أبرز الأمثلة على ذلك: (البوسنة والهرسك في عام 1995م، وأوكرانيا بعد اتفاقية بودابست عام 1994م).
تاريخيًا، لقد وظّفت واشنطن خطاب "السلام ونزع السلاح" كأداة سياسية لفرض معادلات مختلة، ففي حين يُنزع سلاح الطرف الأضعف؛ يُبقى الطرف الأقوى مدججًا بالأسلحة المتطورة، مما يخلق بيئة غير متوازنة تُسهّل استمرار السيطرة والهيمنة.
يصف الباحث "ريتشارد فالكنر" هذا النمط بأنه "سياسة التدليس الاستراتيجي" حيث يتم استخدام شعارات إنسانية لتغطية قرارات ذات طبيعة قهرية، وهذا النمط يمكن رصده بوضوح في حالات متعددة، من البلقان إلى أوروبا الشرقية، وصولًا إلى الشرق الأوسط.
البوسنة والهرسك: من نزع السلاح إلى مجزرة كبيرة
في تسعينيات القرن الماضي، فرض المجتمع الدولي على مسلمي البوسنة والهرسك قيودًا مشدّدة على حيازة السلاح، تحت ذريعة الحد من التصعيد العسكري، لكن هذه السياسة لم تطبَّق على القوى العسكرية الصربية، والتي استمرت في الحصول على دعم عسكري واسع من الجيش اليوغوسلافي السابق، والنتيجة الكارثية ظهرت في (سربرنيتسا) عام 1995م، حين اقتحمت القوات الصربية المدينة، وارتكبت واحدة من أفظع المجازر في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، حيث قُتل أكثر من ثمانية آلاف رجل وامرأة من مسلمي البوشناق، وقد وُصف الموقف الدولي حينها بأنه "تواطؤ بالصمت" حيث اكتفى مجلس الأمن بإدانة لفظية دون أيّ تدخل حقيقي.
هذا المثال يكشف أنَّ نزع السلاح من الضحية لا يؤدي إلى سلام -كما تُروّج إدارة "ترمب" لذلك-؛ بل يفتح الباب أمام إبادة جماعية مؤكدة ما زالت مستمرة منذ عامين!!
كما أنّ هنالك تجربة أخرى لا تقل خطورة عن تجربة سربرنيتسا، هي ما حصل مع أوكرانيا، فبعد انهيار الاتحاد السوفيتي، ورثت كييف ترسانة نووية ضخمة تُعد الثالثة عالميًا من حيث الحجم، وبضغط غربي شديد، وُقّعت اتفاقية بودابست عام 1994م، حيث وافقت أوكرانيا على تسليم أسلحتها النووية مقابل ضمانات أمنية من الولايات المتحدة، بريطانيا، وروسيا، ولكن هذه الضمانات سقطت مع أول اختبار حقيقي، ففي عام 2014م، اجتاحت روسيا شبه جزيرة القرم، ولم تحرك واشنطن أو لندن ساكنًا سوى فرض عقوبات اقتصادية، ثم في 2022م، شنّت روسيا حربًا واسعة على أوكرانيا، لتجد الأخيرة نفسها بلا سلاح ردع، وتحت رحمة دعم غربي متذبذب.
هذا المثال يوضح أنَّ الضمانات الدولية ليست سوى أوراق ضغط وقتية، وأنَّ القوى الكبرى لا تلتزم بها عندما تتغير مصالحها، وبالمثل، فإن أيّ ضمانات تُعطى للفلسطينيين مقابل نزع سلاح المقاومة في غزة؛ لن تكون سوى وعود فارغة تنهار عند أول مواجهة مع إسرائيل.
تسعى خطة "ترمب" إلى فرض معادلة خطيرة، وهي تجريد المقاومة من السلاح مقابل وعود غامضة بتحسين الوضع، لكن هذا الطرح يتجاهل تمامًا طبيعة الصراع، حيث إسرائيل ليست مجرد طرف عادي؛ بل قوة محتلة تمتلك تفوقًا عسكريًا مطلقًا ودعمًا أميركيًا غير مشروط.
في البوسنة، كان نزع السلاح مقدمة للمجزرة، وفي أوكرانيا كان تسليم الترسانة النووية بداية لانكشاف الدولة أمام العدوان، وفي غزة سيكون نزع السلاح خطوة لشرعنة الاحتلال وإخضاع الفلسطينيين لمعادلة استسلام طويلة الأمد.
الأخطر من ذلك، هو أنَّ إسرائيل لم تُبدِ يومًا ما استعدادًا لتقديم تنازلات سياسية؛ بل تعتبر أي تهدئة فرصة لتعزيز الاستيطان وفرض وقائع جديدة على الأرض، وبالتالي فإنَّ الحديث عن "سلام"مع غزة؛ هو إعادة إنتاج لفكرة السلام مقابل نزع السلاح، أي تكريس الهيمنة الكليّة بعد أن يُكسر السلاح!
التدليس الأميركي كأداة استراتيجية
إنَّ السياسة الأميركية في هذه الملفات تعتمد على ثلاثة عناصر رئيسية، ومنها الخطاب المضلّل، فتقديم خطة نزع السلاح كخطوة نحو الأمن والسلام؛ هو في جوهره تكريس لميزان قوة مختل!
وكذلك الضمانات الزائفة، من خلال توقيع اتفاقيات أو إطلاق وعود دولية لا تصمد أمام أول اختبار عملي، وإبقاء التفوق للطرف الأقوى، إسرائيل في غزة.
يشير المفكر اليهودي الأمريكي "نعوم تشومسكي" بأنَّ واشنطن لا تتبنى خطاب نزع السلاح إلا حين يكون وسيلةً لتجريد الخصوم من أوراق القوة، بينما تحتفظ لنفسها ولحلفائها بالقدرات الهجومية الكاملة.
وأخيرًا.. إنَّ خطة "ترمب" بشأن غزة ليست مشروعًا جديدًا للسلام؛ بل امتداد لنمط تاريخي من السياسات الأميركية التي تبني معادلات مختلة وتشرعن الضعف تحت غطاء شعارات إنسانية، فمن سربرنيتسا إلى بودابست وصولًا إلى غزة، يتكرّر الدرس ذاته: "نزع السلاح من الضحية لا يجلب سلامًا؛ بل يفتح الباب أمام المجازر والهيمنة".
وكذلك الضمانات الأميركية ليست سوى أوراق ضغط سرعان ما تتبخر عند تغيّر موازين القوى، فواشنطن تمارس سياسة التدليس، فتبيع الوهم بالسلام، بينما تحمي المعتدي وتُضعف الضحية.
المطلوب اليوم ليس الانجرار وراء هذه السياسات؛ بل كشفها وفضحها، والتأكيد على أنَّ أيّ حل عادل للصراع الصفري (الفلسطيني–الإسرائيلي) لا يمكن أن يقوم على إضعاف الشعب الفلسطيني وتجريده من حقه في الدفاع عن نفسه؛ بل على معالجة جذرية لجوهر القضية: الاحتلال!!
✍🏻 الأغيد
30 أيلول/ديسمبر 2025
