في قلب "غزوة أحد"، وفي أحلك لحظات الصدمة والهزيمة الظاهرة، ينزل القرآن لا ليعاتب أو يوبخ، بل ليقوم بـ "عملية جراحية" دقيقة في "وعي" الأمة، ويعيد بناء "أسس الثبات" لديها. هذا المقطع ليس مجرد سرد لتفاصيل المعركة، بل هو "مدرسة" متكاملة في "فقه الأزمات". هذا المقال هو محاولة لاستكشاف كيف أن آية ﴿بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ...﴾ هي "الآية العمود" التي تقدم "العلاج الجذري" لمشاعر الوهن والضعف، وتؤسس لـ"منهج" متكامل يحرر المؤمن من عبودية الأشخاص والأشياء.
الآية العمود: "تصحيح الولاء" كحصن ضد الانهيار
إن "الآية العمود" في هذا المقطع هي ﴿بَلِ اِ۬للَّهُ مَوْل۪يٰكُمْۖ وَهُوَ خَيْرُ اُ۬لنَّٰصِرِينَۖ﴾ (150)
. فهي البديل الكامل والحل الجذري الذي يقدمه القرآن في مواجهة أزمة فقدان القائد (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ...) والهم بالفشل. وكما يوضح الإمام الطبري، فإن كلمة "بل" هي أداة إضراب، فكأنه قال: "يا أيها الذين آمنوا لا تطيعوا الذين كفروا... ثم ابتدأ الخبر، فقال: {بَلِ اللّهُ مَوْلاكُمْ} فأطيعوه دون الذين كفروا". وهذا الولاء، كما يشير ابن عاشور، له وقع عظيم عند العرب الذين "للولاء عندهم شأناً كشأن النسب"، فكيف إذا كان الولاء لسيد الموالي كلهم؟
"التحرير المزدوج": من عبودية الأشخاص والأشياء
إن الإيمان بأن "الله هو المولى" يقوم بعملية تحرير مزدوجة للنفس المؤمنة. فهو يحررها من عبودية الأشخاص، مهما علت منزلتهم، بتأكيده على أن المشروع مرتبط بالمنهج الخالد لا بالشخص الفاني. ويحررها من عبودية الأشياء، كالكثرة العددية أو القوة المادية، بتأكيده على أن النصر الحقيقي من عند "خير الناصرين". وهذا لا يعني تجاوز هذين العالمين، بل يعني ما لخصناه سابقًا بأنه "حاكمية عالم الأفكار، وخير تجلياته العقيدة"، بحيث تصبح العقيدة هي العدسة التي نرى بها الأشخاص والأشياء ونضعها في نصابها الصحيح.
"خير الناصرين": البرهان العقلي على أفضلية الولاء لله
إن "خيرية" نصرة الله ليست مجرد "ادعاء" إيماني، بل هي "حقيقة" قائمة على "برهان" عقلي. فكما يفصل ابن عاشور، فإن نصر الله هو "خير" لأنه دائمًا "إظهاراً لحقِّ المحقّ وإبطالِ الباطل"، بخلاف نصر البشر الذي قد يكون تأييدًا لظالم. ويضيف الشيخ الطوسي برهانًا منطقيًا آخر، فيقول إنه حتى لو اعتددنا بنصرة غير الله، فإن "نصرة الله خير منها، لأنه لا يجوز أن يغلب، وغيره يجوز أن يغلب"، فالثقة بنصرته تحصل ولا تحصل بنصرة غيره.
"التطبيق العملي": من "أُحد" إلى "غزة"
إن هذا المنهج ليس تاريخًا، بل هو "زاد" و"سلاح" لكل مقاوم في كل زمان. وقد تجلى التطبيق العملي الأول لهذا المبدأ في صرخة عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوم أحد، بأمر من النبي صلى الله عليه وسلم: اللَّهُ مَوْلَانَا وَلَا مَوْلَىٰ لَكُمْ. إنها إعلان يقلب موازين النصر ويعيد بناء الروح في قلب الهزيمة. وما نشاهده اليوم في صمود المقاومة في غزة، في مواجهة "تكالب الجميع إمدادًا للعدو وخذلانًا للمقاومة"، هو التطبيق المعاصر لإسناد الظهر إلى هذا "الركن العقدي الشديد".
الخاتمة: ولاية الله كطريق للرحمة
إن "الولاية" هي "الحصن" الذي يقي من كل أسباب الوهن والهزيمة. وهذا المقطع كله يصب في خاتمته ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾. فالطاعة لله ورسوله هي "البرهان العملي" على صدق الولاء لله، وهي "الطريق" الوحيد لنيل "رحمة" الله التي هي أصل كل نصر وفلاح.
كتب حسان الحميني،
والله الموفق.