بعد أن أسس القرآن للمرجعية العقدية والمنهجية، ينتقل في هذا المقطع إلى "ميدان الاجتماع"، ليرسم لنا "دستور الأمة المعتصمة" ووظيفتها الحضارية. إنه لا يقدم مجرد أوامر، إنه يكشف عن "السنن" الحاكمة لصعود الأمم وهبوطها. هذا المقال هو محاولة لاستكشاف كيف أن آية ﴿تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ...﴾ هي "الآية العمود" التي تعلمنا "كيف نقرأ" هذه الأحداث الاجتماعية والتاريخية، وتدعونا للنظر إليها كـ"آيات" دالة على سنن الله العادلة، لا كـ"ظواهر" فحسب.
الآية العمود: "قراءة السنن" كمنهج لفهم التاريخ والمجتمع
إن "الآية العمود" في هذا المقطع هي ﴿تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ ۖ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعَالَمِينَ﴾. فهي "العدسة المفسرة" التي تحول "الظواهر" الاجتماعية (الوحدة، التفرق، العزة، الذلة) إلى "آيات" دالة على سنن إلهية. وإن تلاوة هذه الآيات "بالحق"، كما يقول أبو زهرة رحمه الله، تعني أنها متلبسة بالحق الذي هو "ميزان الأفكار ومقياس الأشياء". ونفي الظلم يعني أن كل ما يقع من جزاء هو، كما يوضح الطبري رحمه الله، "وضع شيء... في موضعه …"، كنتيجة عادلة لأفعال العباد.
"الاعتصام" و"التفرق": القوس البلاغي لآيات العزة والذلة
إن المقطع محاط بـ "قوس بلاغي" يكشف عن "سنة" الله في العزة والذلة، من خلال رمزية "الحبل". ففي بدايته يأمر بالنجاة من خلال ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا﴾. فالاعتصام بالمنهج الإلهي هو "السبب" المباشر للنجاة من الفرقة. وفي نهايته يصف حالة الهوان ﴿ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ... إِلَّا بِحَبْلٍ مِّنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ﴾. فالتفرق عن منهج الله هو "السبب" المباشر للذلة، فلا تقوم لهم قائمة إلا بحبال واهية ومؤقتة. والغاية من الوحدة، كما يبين رشيد رضا رحمه الله، هي أن تكون الأمة "متحدة في الدين متفقة في المقاصد يعذر بعضهم بعضا... مع المحافظة على ما لا تختلف فيه الأفهام".
"الأمة الوظيفية": من الوحدة إلى الحركة
إن "الوحدة" ليست غاية في ذاتها، بل هي "المنصة" الضرورية لأداء "الوظيفة الحضارية" للأمة. والآية المحورية التي تحدد هذه المهمة هي: ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ﴾. هذه هي "المهمة" التي تمنح "الوحدة" معناها وقيمتها، وهي شرط "الفلاح". والنموذج الصالح من أهل الكتاب ﴿لَيْسُوا سَوَاءً...﴾ استحق المدح لأنه قام بنفس هذه "الوظيفة".
الخاتمة: غزة كـ "آية" معاصرة
إن هذه "الآيات" والسنن ليست مجرد تاريخ، بل هي واقع حي يتكرر. وما نشاهده اليوم هو "آية" من آيات الله. فنرى "أمة قائمة" في غزة تعتصم بحبل الله وتجاهد، وفي المقابل نرى "تفرقًا" و"اختلافًا" في الأمة المحيطة. ونرى كيف أن "حبل الناس" الذي كان يمد الكيان المحتل بالقوة بدأ يهترئ، لتظهر "سنة الذلة" التي هي العاقبة الحتمية للكفر والعصيان. إنها دعوة لنا لنقرأ واقعنا كـ "آيات"، ونتعظ بسنن الله قبل فوات الأوان.
كتب حسان الحميني،
والله الموفق.