استثمر في نفسك اليوم، واجعل التعلم عادة يومية. ابدأ الآن واجعل العلم رفيقك في رحلة النجاح. تابعنا على تيليجرام!

هندسة الدعوة: المقال 5: من حماس النية إلى حكمة المنهج : بناء الجسور قبل بناء الحجج: التعاطف كبوصلة للدعوة

مقدمة: ما بعد التحليل - الحاجة إلى "القلب"

في المقالين السابقين، قمنا بتشخيص الشبكة المفاهيمية المحتملة لجارة الأخت حليمة، وشرحنا الأخطاء المنهجية لمحاولتها الدعوية الأولى القائمة على "المدخل المعلوماتي". لقد أصبح واضحًا لدينا "ماذا" قد يكون يدور في عقلها، و"لماذا" كان المدخل الأول غير فعال.

لكن المعرفة وحدها لا تكفي. فـ "هندسة الدعوة" ليست مجرد عملية تحليلية باردة، بل هي فن إنساني رفيع يتعامل مع قلوب ونفوس ومشاعر. بعد أن شغلنا "عقلنا" التحليلي، حان الوقت لنستدعي "قلبنا" المتعاطف. فقبل أن نبني "الحجج" لإقناع الآخرين، يجب أن نبني "الجسور" للوصول إليهم. والأداة الأساسية لبناء هذه الجسور هي التعاطف .

التعاطف ليس موافقة على الخطأ أو تبريرًا له، بل هو كما يمكن تعريفه في سياقنا: محاولة صادقة ومخلصة لفهم الشبكة المفاهيمية للآخر، بهدف تحديد البواعث الحقيقية لسلوكاته. وهذا الفهم العميق لا يتأتى إلا من خلال بناء صلة إنسانية جيدة وصداقة حقيقية، ويتطلب مهارة في "قراءة ما وراء السلوك المعلن"؛ وهي ليست تجسسًا، بل استماع واعٍ وملاحظة دقيقة تهدف إلى الفهم من أجل المساعدة. يهدف هذا المقال إلى استعراض كيفية تطبيق حليمة لهذه الأداة كبوصلة توجه محاولتها الدعوية الثانية.

الخطوة الأولى: تغيير الهدف من "الإقناع" إلى "الفهم"

أول ثمرة للتعاطف هي تغيير الهدف المباشر. يجب على حليمة أن تنقل تركيزها مؤقتًا من:

الهدف القديم: "كيف أقنعها بارتداء الحجاب؟"

إلى الهدف الجديد: "كيف أفهم جارتي كإنسانة بشكل أعمق وأبني معها علاقة ثقة وصداقة حقيقية؟"

الحجاب، وغيره من مظاهر الالتزام، يجب أن يُنظر إليه كنتيجة طبيعية لعملية تغيير داخلي، لا كهدف مباشر يُفرض من الخارج.

الخطوة الثانية: ممارسة التعاطف مع "خريجة الشريعة"

على حليمة أن تتخيل بعمق: ماذا يعني أن تكوني امرأة شابة، متخصصة في الشريعة، وتعيشين في مجتمع معاصر، ولا ترتدين الحجاب؟

فهم الصراع الداخلي: قد تعيش الجارة صراعًا داخليًا حقيقيًا بين قناعاتها الشرعية النظرية وبين واقعها الاجتماعي أو ضغوطها النفسية. التعاطف يعني إدراك وجود هذا الصراع المحتمل وعدم افتراض أنها "مرتاحة" لقرارها.

فهم عبء التخصص: كونها خريجة شريعة قد يضع عليها ضغطًا إضافيًا. قد تشعر بأنها "تحت المجهر" وأن الجميع ينتقدونها، مما يجعلها تتخذ مواقف دفاعية.

فهم الرغبة في التميز: قد تكون محاولتها لإثبات أن "التدين ليس بالمظهر" هي وسيلة للتميز عن الصورة النمطية السلبية التي قد تحملها عن بعض المتدينات.

فهم البحث عن القبول: قد تكون رغبتها في الانتماء لمحيط اجتماعي أو مهني معين هو دافع قوي يؤثر على قراراتها.

الخطوة الثالثة: بناء الجسور عبر المداخل الإيجابية

بناءً على هذا الفهم المتعاطف، يمكن لحليمة البدء في بناء الجسور من خلال مداخل إيجابية وصادقة:

مدخل الثناء الصادق: أول جسر يجب بناؤه هو جسر التقدير. على حليمة أن تبدأ بالتعبير الصادق عن إعجابها بما تراه فعلاً في جارتها: "يا فلانة، أنا معجبة جدًا بأخلاقك العالية وتعاونك ولطفك مع الجميع. ما شاء الله عليك."

الأثر: هذا الثناء الصادق يكسر الحواجز، وينزع فتيل الدفاعية، ويوصل رسالة ضمنية: "أنا أراكِ كإنسانة متكاملة، ولا أختزلك في مظهرك".

مدخل الاهتمامات الحياتية المشتركة: الانطلاق من مساحات الحياة المشتركة التي هي في حقيقتها جزء من ديننا بمعناه الواسع. يمكن لحليمة بناء حوارات وصداقة مع جارتها حول اهتمامات مشتركة مثل شؤون تربية الأبناء، أو الاهتمامات المنزلية، أو الطموحات المهنية. هذه الموضوعات، وإن لم تكن وعظًا مباشرًا، هي من صميم "محيا" المسلم الذي يجب أن يكون لله، والحوار الصادق حولها يقوي العلاقة الإنسانية ويجعل أي حوار لاحق في أمور تعبدية محضة يأتي في سياق من الثقة والمودة.

مدخل تقدير العلم والاستفادة الصادقة: بما أن الجارة متخصصة في الشريعة، فإن هذا يمثل فرصة حقيقية وثمينة. على حليمة أن تظهر تقديرًا صادقًا لعلم جارتها وتسعى للاستفادة منه بالفعل، لا أن تستخدم ذلك كاستدراج أو حيلة مكشوفة. يمكنها أن تستشيرها بصدق في مسألة تشغلها أو تطلب رأيها في قضية فقهية أو تربوية من منظور شرعي. مثل: "يا فلانة، بما أنك أهل الاختصاص ودارسة، أحببت أن أستفيد من علمك في مسألة كذا...".

الأثر: هذا المدخل الصادق يحقق عدة أهداف:

يقلب المعادلة: بدلًا من الظهور بمظهر "المعلمة"، تظهر حليمة بمظهر "المستفيدة"، مما يعزز مكانة الجارة ويشعرها بالتقدير.

يفتح باب الحوار الديني: يجعل الحديث في أمور الدين طبيعيًا وفي سياق إيجابي قائم على الاحترام المتبادل.

يبني جسرًا معرفيًا: قد يكون هذا الحوار هو المدخل الذي تكتشف من خلاله حليمة بشكل أعمق كيف تفكر جارتها وتربط بين علمها النظري وواقعها العملي.

خاتمة: التعاطف أولاً.. دائمًا


إن "هندسة الدعوة" الفعالة تبدأ دائمًا بالتعاطف. فهو الذي يمنحنا البصيرة لفهم الدوافع الإنسانية العميقة، وهو الذي يرشدنا لاختيار المداخل الصحيحة التي تفتح القلوب قبل العقول، وهو الذي يحول الدعوة من عملية "إقناع" جافة إلى عملية "تواصل" إنساني دافئ.

قبل أن تفكر حليمة في "ماذا" ستقول، عليها أن تتقن فن "كيف" تبني الجسر. وعندما يُبنى جسر الثقة والتقدير، يصبح عبور الأفكار والقناعات عليه أيسر وأكثر قبولاً. في المقال التالي، سنرى كيف يمكن لحليمة، بعد بناء هذه الجسور، أن تنتقل إلى "هندسة حوار مفاهيمي" ذكي ومثمر.

كتب حسان الحميني،
والله الموفق.

Post a Comment

أووپس!!
يبدو أن هناك خطأ ما في اتصالك بالإنترنت. يرجى الاتصال بالإنترنت وبدء التصفح مرة أخرى.
الموافقة على ملفات تعريف الارتباط
نحن نقدم ملفات تعريف الارتباط على هذا الموقع لتحليل حركة المرور وتذكر تفضيلاتك وتحسين تجربتك.