استثمر في نفسك اليوم، واجعل التعلم عادة يومية. ابدأ الآن واجعل العلم رفيقك في رحلة النجاح. تابعنا على تيليجرام!

من وهم الحيازة إلى صدق الائتمان: مركزية البلاغ في صحة إقامة الدين ( تدبر الثمن 7 من الحزب 12 )


في مقطع قرآني يعالج أزمة الميزان الحضاري، ينقلنا القرآن من توصيف حالة العدمية التي تصيب الأمم ﴿لَسْتُمْ عَلَىٰ شَيْءٍ﴾، إلى تبيان السبب الجذري لها. هذا المقال يحاول تفكيك هذه المعادلة، ليثبت أن الخروج من دائرة الغثائية لا يكون بحيازة النصوص والمقدسات، بل بالائتمان عليها. ونقطة البدء في هذا الائتمان هي البلاغ التام الذي لا ينقص منه حرف، والإقامة العملية التي لا ينحرف فيها سلوك، مستندين في ذلك إلى الميزان الدقيق الذي وضعته سورة المائدة، وتسمى سورة العهود عند كثير من المفسرين.

الآية العمود : البلاغ التام كشرط للعصمة والشرعية

إن الآية العمود التي تؤطر هذا المقطع وتمسك بزمام معانيه هي قوله تعالى: ﴿قُلْ يَٰٓأَهْلَ اَ۬لْكِتَٰبِ لَسْتُمْ عَلَيٰ شَےْءٍ حَتَّيٰ تُقِيمُواْ اُ۬لتَّوْر۪يٰةَ وَالِانجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْۖ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراٗ مِّنْهُم مَّآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَٰناٗ وَكُفْراٗۖ فَلَا تَاسَ عَلَي اَ۬لْقَوْمِ اِ۬لْكٰ۪فِرِينَۖ﴾ (70)

فهذه الآية هي دستور الإصلاح؛ إذ قررت أن الشرعية مرتبطة باستيفاء البلاغ. فقبل أن يطالب الله الناس بالإقامة في الآية التالية، ألزم الرسول (والناهض من بعده) بمعيارية النقل. فلا عصمة ولا حماية لمن يمارس الانتقائية في البلاغ، وأي نقص في ما أُنزل ينسف شرعية الرسالة ويحولها إلى بناء هش لا وزن له.

الكلية في الائتمان: ترك الجزء كترك الكل

إن أمانة البلاغ تقتضي نقل الدين ككتلة واحدة مترابطة، وهذا ما يحرره ابن عطية رحمه الله بعبارة دقيقة عند تفسيره لقوله تعالى ﴿وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ﴾، حيث يقول: "أي إنك إن تركت شيئاً فكأنما قد تركت الكل، وصار ما بلغت غير معتدّ به... فقوله تعالى: {وإن لم تفعل} معناه وإن لم تستوف".
ويؤكد هذا المعنى ما روته عائشة رضي الله عنها بلفظ قاطع ينفي أي سرية أو كتمان، حيث قالت: "من حَدّثَك أن محمدًا صلى الله عليه وسلم كتم شيئًا مما أُنزل عليه فقد كذب، الله يقول: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ}". فشرط الائتمان هو الوضوح والشمول، وكل اختزال للدين هو خيانة للأمانة.

سقوط الحيازة أمام شرط الإقامة

في مقابلة جوهرية بين منطق الحيازة وفقه الائتمان، تأتي الآية ﴿لَسْتُمْ عَلَىٰ شَيْءٍ حَتَّىٰ تُقِيمُوا...﴾ لتهدم غرور من ظن أن مجرد امتلاك الكتاب ينجيه. فأهل الكتاب وقعوا في وهم أنهم يملكون الحق، فجاء الرد بأن قيمتهم صفر حتى يحققوا الإقامة. والإقامة هنا هي التفعيل الواقعي للنص. والائتمان يقتضي أن يكون الكتاب إماماً يُتّبع، لا مجرد إرث يُحاز. فالانتساب التاريخي للنص لا يغني عن إقامته شيئاً.

آلية البلاغ: التمكين من العلم

إن البلاغ الذي يحقق الائتمان ليس مجرد إسماع صوتي، بل هو تأمين لوصول الحق، كما يوضح الطاهر بن عاشور رحمه الله في تفسيره لمعنى بلغ، حيث يقول: "والتّبليغ يحصل بما يكفل للمحتاج إلى معرفة حكمٍ تَمكُّنَه من معرفته في وقت الحاجة أو قبله... ولأجل هذا حذف متعلِّق {بلِّغ} لقصد العموم، أي بلّغ ما أنزل إليك جميع من يحتاج إلى معرفته".
ويضيف موضحاً الآليات العملية: "لذلك كان الرسول عليه الصّلاة والسّلام يقرأ القرآن على النّاس... ويأمر بحفظها عن ظهر قلب وبكتابتها... وأرسل مصعباً بن عُمير إلى المدينة قبل هجرته ليعلّم الأنصار القرآن". فالبلاغ عند ابن عاشور هو منظومة تعليمية تضمن تمكن الناس من العلم، وبدون هذا التمكين لا تقوم الحجة ولا تتحقق الإقامة، ويدخل هذا ففي عملية تعميم التعلم.

الخاتمة: الوفاء بالميثاق طريق الوزن الحضاري

إن القرآن يعلمنا أن الوزن الحضاري للأمة مرهون بمدى وفائها بالميثاق. فلا يمكن للناهض أن يخرج من تيه ﴿لَسْتُمْ عَلَىٰ شَيْءٍ﴾ إلا إذا جمع بين أمانة البلاغ التي تستوفي النص ولا تكتمه، وبين صدق الإقامة التي تحول هذا النص إلى واقع حي. حينها فقط، يتحول الدين من حيازة ندعيها، إلى أمانة نؤديها، فنستحق بذلك العصمة والتأييد.



كتب حسان الحميني،
والله الموفق.

إرسال تعليق

أووپس!!
يبدو أن هناك خطأ ما في اتصالك بالإنترنت. يرجى الاتصال بالإنترنت وبدء التصفح مرة أخرى.
الموافقة على ملفات تعريف الارتباط
نحن نقدم ملفات تعريف الارتباط على هذا الموقع لتحليل حركة المرور وتذكر تفضيلاتك وتحسين تجربتك.