في ختام آيات الوعيد للمنافقين، يقدم القرآن "المشروع البديل" الذي ينجي من العذاب ويبني الحياة: "الشكر". هذا المقال، انطلاقًا من أن "الآية العمود" هي ﴿مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ...﴾، هو محاولة لاستكشاف كيف أن "الشكر" ليس مجرد فضيلة فردية، بل هو "ثقافة" متكاملة، و"منهج" لبناء "عمران رائد"، وذلك من خلال تفكيك مفهوم الشكر كما فهمه الأوائل، وربطه مباشرة بتحديات بناء الحضارة.
الآية العمود: "الشكر والإيمان" كغاية إلهية وبديل عن العذاب
إن "الآية العمود" في هذا المقطع (الحزب 10، الثمن 8) هي ﴿مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ ۚ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا﴾. فهي "الآية المقاصدية" التي تكشف عن أن "الغاية" التي يريدها الله من خلقه ليست "العذاب"، بل هي "الشكر والإيمان". وكما يوضح المفسرون كالطبري وابن عاشور، فإن الله غني عن عذابنا، فالعذاب ليس "تشفيًا"، بل هو "نتيجة حتمية" للكفران. فإذا وجد "السبب" المنجي (إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ)، انتفت "النتيجة" المعذبة.
تشريح "ثقافة الشكر": من تصور القلب إلى إقامة العمران
إن "ثقافة الشكر" التي هي أساس النجاة والعمران، ليست مجرد ترديد للسان، بل هي "منظومة متكاملة" ذات أبعاد ثلاثة، كما يشرحها الإمام الراغب الأصفهاني، وهذه الأبعاد الثلاثة هي نفسها "القدرات" اللازمة لبناء الحضارة.
يبدأ الشكر من شكر القلب، وهو تصور النعمة، وهذا هو أساس "القدرة الفكرية" التي تبني "جودة التصورات والمفاهيم".
ثم ينتقل إلى شكر اللسان، وهو الثناء على المنعم، وهو أساس "القدرة الثقافية" على "إشاعة قيمة التقدير والتثمين" في المجتمع.
ويصل الشكر إلى ذروته في شكر سائر الجوارح، وهو مكافأة النعمة بقدر استحقاقها، وهذا هو "المحرك العمراني"، أي "القدرة على تحويل المفاهيم والتصورات إلى عمران".
فمكافأة نعمة العلم تكون بالجامعات، ومكافأة نعمة المال تكون بالمشاريع، وهكذا.
وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا: النموذج الإلهي لثقافة الشكر
إن خاتمة الآية تقدم "النموذج الأعلى" الذي يجب أن نتخلق به. فالله سبحانه، وهو "الغني" المطلق، يقدم نفسه لنا كـ شَاكِرًا. وشكره لعباده، كما يوضح القشيري رحمه الله، هو "أن يثني عليه بذكر إحسانه الذي هو طاعته له"، ويجازيه بما يفوق أمانيه. وهذا يؤسس لمعادلة عمرانية متكاملة: "بوجود إله شاكر، وعبد ذاكر، تسود قيمة الشكر، حيث الناس يقدرون أعمال بعضهم ويثمنونها، فتعمر الأرض". فالتقدير المتبادل هو الوقود الذي يحفز على الإبداع والإتقان، وهو عكس "ثقافة الحسد" التي تهدم طاقات الأمة.
"الكفران" (النفاق) كـ "فيروس" معطل للعمران
في مقابل "ثقافة الشكر" البناءة، يأتي "النفاق" كـ "ثقافة كفران" مدمرة. فالكفران، كما يقول الراغب، هو "نسيان النعمة وسترها"، والمنافق هو "الكافر" للنعمة بامتياز. ولحماية "ثقافة الشكر" من هذا الفيروس، يأتي النهي الحاسم عن مجالسة أهل الاستهزاء بآيات الله، كإجراء وقائي لـ "خنق بؤر الشر" وحماية المجتمع من "عدوى" الكفران. فالمجتمع الذي تسود فيه ثقافة الكفران (الشكوى، الحسد، عدم التقدير) هو مجتمع "مشلول"، طاقاته مهدرة، وغير قادر على "مكافأة" نعمه، فتزول منه وتتحول، كما يقرر الإمام الغزالي.
الخاتمة: الشكر كخيار حضاري
إن "الشكر" في القرآن ليس مجرد "خلق فردي"، هو "خيار حضاري" متكامل. إن "الناهض" الذي يريد بناء "عمران رائد"، لا بد له من أن يبدأ بـ "إشاعة ثقافة الشكر" بأبعادها الثلاثة في مجتمعه، لأن "الأمة الشاكرة" هي وحدها "الأمة القادرة" على استثمار نعمها والارتقاء بها.
كتب حسان الحميني،
والله الموفق.
