استثمر في نفسك اليوم، واجعل التعلم عادة يومية. ابدأ الآن واجعل العلم رفيقك في رحلة النجاح. تابعنا على تيليجرام!

ميثاق الإيمان: كيف يبني الوفاء بالعقود عمران الثقة؟


نقف على جسر بين سورتي النساء والمائدة، ينتقل بنا القرآن من بناء المجتمع إلى ترسيخ مواثيقه. فسورة النساء، بكل ما فيها من تشريعات، كانت تؤسس للبنيان الداخلي، وتأتي سورة المائدة لتبدأ بالملاط الذي يربط هذا البنيان ويمنحه صلابته وقوامه: الوفاء بالعقود. إن هذا الانتقال ليس مجرد بداية جديدة، بل هو عبور على جسر متين، يكشف عن أن الإيمان الذي تأسس في القلوب لا يكتمل إلا بأمانة تتجلى في الوفاء بالعهود. هذا المقال هو محاولة لاستكشاف كيف أن الآية العمود أَوْفُوا بِالْعُقُودِ هي الترجمة العملية للإيمان، والأساس الذي لا يقوم عمران الثقة إلا به.

الوفاء بالعقود كبراعة استهلال ودستور شامل

تفتتح سورة المائدة بأمر إلهي جامع هو الآية العمود لهذا الانتقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾. وهذا التصدير، كما يصفه  ابن عاشور رحمه الله، هو براعة استهلال، فهو مؤذن بأن سَتَرد بعده أحكام وعقود كانت عقدت من الله على المؤمنين. إن كلمة العقود هنا جاءت بصيغة الاستغراق لتشمل كل الالتزامات: العقد الأعظم مع الله بالعبودية، والعقود مع الرسل بالطاعة، والعقود التي يتعاقدها الناس بينهم. والعقد في أصله اللغوي، كما يوضح الإمام الجصاص، هو الشد، وهو ما يلزم به حكم في المستقبل، فهو فعل يربط الإرادة بالمستقبل، ويؤسس للثقة التي هي أساس كل بناء.

الإيمان والأمانة: علاقة تلازم لا تنفصم

إن النداء بـ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ليس مجرد تمييز للمخاطبين، بل هو استدعاء لقيمة الأمانة الملازمة للإيمان. فكما يوضح الفيلسوف طه عبد الرحمن، فإن الإيمان والأمانة ينبعان من جذر لغوي واحد هو الأمن، والعلاقة بينهما ليست مجرد علاقة تضمن، بل هي علاقة تلازمية، أي أن وجود أحدهما يقتضي وجود الآخر بالضرورة. وانطلاقًا من الحديث الشريف لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ، يمكننا أن نستنتج منطقيًا أنه لا أمانة بغير إيمان، أي أن الأمانة في صورتها الكاملة لا تتحقق إلا في قلب مؤمن يراقب الله. فالوفاء بالعقود ليس مجرد سلوك قانوني، بل هو برهان على صدق الإيمان، وتجلٍ لفقه الائتمان الذي يرى كل شيء أمانة.

من العقد إلى الميثاق: الارتقاء بالالتزام

إن الفقه الائتماني لا يقف عند حدود العقد القانوني، بل يرتقي به إلى مستوى الميثاق الأخلاقي. فالعقد قد يكون اتفاقًا أفقيًا بين طرفين في عالم الشهادة، ضمانته القانون. أما الميثاق، فهو عهد غليظ له طرف ثالث شاهد ورقيب، وهو الله، وضمانته التقوى والمسؤولية الأخروية. والقرآن يدعونا دائمًا إلى أن نعيش عقودنا كمواثيق، وهذا ما تؤكده بداية سورة المائدة، فهي بعد الأمر بالوفاء بالعقود، تذكرنا مباشرة بـ شَعَائِرَ اللَّهِ والتَّقْوَىٰ، لتصبغ العقد المادي بصبغة إيمانية تجعله ميثاقًا.

 الوفاء كوقاية من مصير السابقين

إن الأمر بالوفاء بالعقود في بداية المائدة هو درس وقائي مستفاد من قصة الانحراف التي عرضتها سورة النساء. وكما يوضح الإمام البقاعي، فإن الله بعد أن بين كيف أن اليهود لما نقضوا المواثيق... حرم عليهم طيبات، ناسب أن يفتتح السورة التالية بأمر المؤمنين بالوفاء، تحذيرًا لهم من السقوط في نفس الداء. فكأن الرسالة هي: احذروا أن تنقضوا كما نقضوا، فيحرم عليكم ما حرم عليهم. فالوفاء بالعقود ليس فقط أساسًا للبناء، بل هو حصن يقي الأمة من أسباب السقوط واللعنة.

الخاتمة: قوة العقود وقوة المجتمع

إن الوفاء بالعقود ليس مجرد فضيلة فردية، بل هو ضرورة عمرانية. إن شبكة العلاقات الاجتماعية، من الأسرة إلى الدولة إلى المجتمع الدولي، لا تكون قوية ومرنة إلا بقوة العقود التي تربط بين أفرادها ومؤسساتها. فالمجتمع الذي تسود فيه ثقافة الوفاء، هو مجتمع تسود فيه الثقة، وإذا سادت الثقة، ازدهر العمران واستقر البنيان. أما المجتمع الذي يخون عقوده، فهو مجتمع مهترئ، مآله إلى التنازع والانهيار.

كتب حسان الحميني،
والله الموفق.

Post a Comment

أووپس!!
يبدو أن هناك خطأ ما في اتصالك بالإنترنت. يرجى الاتصال بالإنترنت وبدء التصفح مرة أخرى.
الموافقة على ملفات تعريف الارتباط
نحن نقدم ملفات تعريف الارتباط على هذا الموقع لتحليل حركة المرور وتذكر تفضيلاتك وتحسين تجربتك.