من أعظم المفاهيم التي حملتها الشريعة الإسلامية مفهوم الرباط؛ ذلك المقام الرفيع الذي جعله الله أعلى من الجهاد بدرجة، وخصّ أهله بميزات لم ينلها غيرهم، من استمرار الأجر بعد الموت، ومحو الخطايا، وطمأنينة القلب، وفضل الصمود والثبات.
لكن هذا الفضل العظيم ارتبط في الوعي التقليدي بـ ثغور الجهاد العسكري وحده، حتى أصبح كثير من الناس يظنون أن الرباط لا يتحقق إلا لمن يحمل السلاح أو يقف على حدود البلاد.
ومع أن هذا هو الأصل الذي وردت فيه نصوص الفضل، إلا أن المقاصد الشرعية وفقه الواقع وتحولات عالمنا الحديث تفرض علينا توسيع النظر إلى مفهوم الرباط ليشمل ثغوراً جديدة أشد خطورة على الأمة من مجرد الثغور الجغرافية.
فالعدو القديم كان يقتحم البلاد، أما العدو الجديد فيقتحم الإنسان ذاته: وعيه، قيمه، نظرته للحياة، طريقة تفكيره، هويته، وحدته، ورغبته في النهوض.
وهنا يصبح سؤال العصر:
هل يكفي الرباط على الثغور العسكرية بينما تسقط الأمة من داخلها؟
وهل يجوز أن نهمل ثغور النهضة والوحدة، وهي اليوم أكثر هشاشة وتهديداً من الحدود الجغرافية؟
أولاً: النص الشرعي ومقاصده في الرباط
عندما ورد فضل الرباط في الحديث الشريف:
«رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها»
لم يكن الفضل مرتبطاً بالشكل فقط، بل بالمقصد:
• حماية الأمة
• دفع العدوان
• صيانة الأمن
• واستباق الشر قبل وقوعه
• وصبر دائم وتضحية مستمرة
هذه المعاني ليست محصورة في السلاح، بل هي مقاصد كلية.
وعندما قال النبي ﷺ:
«كل ميت يختم على عمله إلا المرابط، فإنه ينمى له عمله»
فذلك لأنه يقوم بعمل مستمر نفعه متعدٍّ، لا فرديّ.
أي أنه لا يحمي نفسه فقط، بل الأمة كلها.
هذه الروح في النصوص تجعلنا ندرك أن الثغر ليس مكاناً بقدر ما هو وظيفة.
ثانياً: الثغور تتغير، والرباط يبقى
في صدر الإسلام كانت التهديدات عسكرية، فجاء الرباط لحماية الثغور.
ورغم أن الأمة لا تزال بحاجة إلى الرباط العسكري، إلا أن طبيعة التهديدات اتسعت.
اليوم العدو قد لا يأتي عبر الحدود، بل عبر:
• مناهج التعليم
• الإعلام
• الترفيه
• التفكيك الثقافي
• بث الشبهات
• ضياع التفكير
• صناعة التبعية
• قتل روح المبادرة
• ضرب الوحدة الداخلية
وهذه كلها ثغور حقيقية، بل أشد أثراً من الثغور العسكرية.
فالحدود الجغرافية قد تسقط عند هزيمة الجيش، لكن الحدود الحضارية إذا سقطت، سقطت الأمة نفسها.
ثالثاً: الرباط الحضاري: حماية الأمة من الداخل
1. رباط الفكر
الفكر هو الحارس الحقيقي للأمة.
فالأمة التي تنهار في أفكارها لا يرفعها سلاح.
ومن أعظم الثغور الفكرية اليوم:
• تجديد منهج التفكير
• كشف زيف الانحرافات الفكرية
• نقد الخطاب التبريري
• مقاومة التسطيح والسطحية
• بناء عقل الإنسان المسلم
• نشر الوعي بسنن التغيير
• تعليم الناس فقه الواقع
• تأسيس عقلية النهضة لا عقلية الانتظار
هذا رباط لا يقل عن رباط الثغور، لأن الانحراف الفكري هو الذي ضيّع الأمة عبر قرون.
2. رباط الهوية
الإسلام ليس طقوساً، بل منظومة حياة.
حين تتشوه الهوية، تنهار قوة الأمة الناعمة، وتصبح تابعة لمن يغزوها فكرياً وثقافياً.
محاربة الانسلاخ الثقافي، والتمسك بالمعالم الكبرى للإسلام، وتجديد معنى الدين في حياة الناس… كلها رباط.
3. رباط الوحدة
أخطر ما يواجه الأمة اليوم هو التمزق.
وقد حذر القرآن من النزاع لأنه يُذهب ريح الأمة.
كل مشروع يبني الوحدة، ويجمع المذاهب، ويقرب الأقليات، ويعيد الثقة بين الشعوب والعلماء والمربين، هو رباط حقيقي.
بل إن العدو الأول يهزم الأمة دائماً حين تنقسم من داخلها.
4. رباط النهضة
النهضة ليست فكراً تجميلياً، بل ضرورة وجودية.
والعمل في مشاريع النهضة، من إعداد القادة، والتدريب، والتعليم، والبحث، والإعلام الهادف، والعمل الاجتماعي، وبناء المؤسسات… كله رباط.
لأن النهضة تُعيد الأمة إلى موقعها الطبيعي أمة شاهدة وقائدة.
رابعاً: لماذا الرباط الحضاري أخطر من الرباط العسكري؟
• العدو الفكري لا يُرى، لكنه يدمر بصمت.
• الهزيمة الداخلية تسبق الهزيمة الخارجية في كل تاريخ الأمم.
• الثغور الحضارية دائمة لا تنتهي، بينما الثغور العسكرية موسمية.
• السلاح يحمي الوجود الجسدي، لكن الفكر يحمي الوجود الحضاري.
• الرباط العسكري يحتاج شجاعة يوم، أما الرباط الحضاري فيحتاج ثبات العمر كله.
وقد يكون من يعمل في بناء الوعي والنهضة اليوم مرابطاً بأشد مما كان على الحدود؛ لأنه يحمي الأمة من الانهيار الكامل.
خامساً: الرباط في عصر النهضة: كيف يطبقه الفرد؟
الرباط اليوم قد يكون في:
• مدرسة تبني جيلاً واعياً
• مركز طبي يعالج الناس بأمانة ويعيد الثقة
• منصة إعلامية تنشر الوعي
• قلم يكتب حقاً
• مؤسسة تربوية تنهض بالجيل
• مشروع اجتماعي يجمع الناس
• دورة تدريبية تفتح العقول
• بحث علمي يطور حياة المسلمين
• مكافحة الفساد
• تعليم فقه الأولويات
• بناء منظومات تفكير جديدة
كل هذا رباط لأنه يحمي الأمة ويخدمها ويقوّيها ويمنع سقوطها.
ولا تعارض بين الرباط العسكري والرباط الحضاري، فكلاهما من جنس واحد:
حماية أمة محمد ﷺ.
خاتمة
الرباط ليس ثغراً جغرافياً وحسب، بل ثغر حضاري أيضاً.
والأمة التي تسقط في الفكر لا ينفعها السلاح، والأمة التي تضعف في وحدتها لا يحميها جيش.
لذلك فإن أفضل عمل يمكن للمسلم القيام به اليوم هو:
أن يرابط على ثغور النهضة، والوحدة، والوعي، والفكر، وأن يكون لبنة في مشروع الأمة القادم.
فهذا هو الرباط الحقيقي في عصر التحديات الكبرى.
د.سامر الجنيدي_القدس
تعقيب:
يصلح هذا المقال، من الدكتور سامر بارك الله فيه- أن يكون شبكة مفاهيمية لربط مفهوم "الرباط" بمصاديقه الواقعية المختلفة:
حضاريا
تنمويا
مؤسسيا
فكريا
....الخ
وإلا، سنبقى ننافح بالمصداق الأول فقط، الذي عرف به مفهوم الرباط أول مرة في أول واقع!!
وهذا، نفسه، على أصالته وجدارته، بغير شبكة الإرتباطات والمصاديق المستجدة، التي كشف كثيرا منها د.سامر هنا-
هذا المعنى من الرباط الاصلي نفسه بدون الشبكة، يوشك أن يرتد على نفسه إذ:
ينقلب محض تقاتل على الحدود القطرية التي وضعتها الخطة الإستعمارية!!
أي يصبح رباطات داخلية تفرقية تقوي حضارات أخرى!!!
فذلكم قوة الوعي بتاريخ وتطور المفاهيم عموديا ضمن نفس المصداق
وأفقيا، في علاقات المفهوم بجواراته المتعددة
وكلاهما (التطور العمودي الأفقي ) يصنعان مع الزمن :**الشبكة المفاهيمية المترابطة**
ومن عجب، نجد القرآن الكريم دوما، عبر كل المراحل المتفاوتة، مستوعبا لمستجداتها ، سباقا الى تعزيز لفظي وسياقي لامتداداتها الترابطية
وهذا مما يجعل التفسير النسقي الأداة المناسبة لحسن الفهم